نحو دور أكبر للجيش في الحياة السياسية للبلاد!

تاريخ الإضافة الثلاثاء 17 آذار 2015 - 7:01 ص    التعليقات 0

        

 

نحو دور أكبر للجيش في الحياة السياسية للبلاد!
محمّد شـيّا
لا يستطيع المواطن اللبناني العادي – كما حالي وغالبية اللبنانيين – إلاّ أن يقف مذهولاً أمام مشهد التآكل السريع المتلاحق في البنيان الدستوري للدولة اللبنانية، بل للكيان اللبناني السياسي نفسه.
البلاد على عتبة عشرة أشهر كاملة من دون رئيس للجمهورية – في سابقة لا مثيل لها. والبلاد أيضاً كما يبدو على وشك أن تدخل فراغاً حكومياً ممتداً، حتى وإن نجح الأقطاب في العثور على معادلة إنقاذية، فارغة من أي مضمون، حفظاً لما تبقى من "شعرة معاوية" التي باتت مشدودة جداً. ويزيد الطين بلة مجلس نيابي ممدد لنفسه، ومطعون في شرعيته الدستورية أمام المجلس الدستوري، ناهيك عن الشرعية الشعبية المفقودة منذ زمن، ولا يستطيع أن يفتتح دورة انعقاد ضرورية، ولا حتى أن يجتمع إلا كلجان متناثرة هنا أو هناك درءاً للصدأ في آلة لم تعد تستخدم إلا نادراً. باختصار لقد بلغت أزمة "الدولة" في لبنان حداً متمادياً من التأزم، ولم يعد ينفع فيها فتوى دستورية من هذا المرجع أو سابقة حقوقية من جمهوريات "الأم الحنون" الخمس أو الست. ما السبب في كل ذلك؟
إذا وضعنا أزمة النظام السياسي اللبناني برمته جانباً – وهي لم تعد مطروحة على الأرجح –فإن السبب "الدستوري" في كل ذلك بسيط. لقد ترك التفسير المصلحي، والقصدي، لمواد دستور الطائف ذات الصلة خلال الوجود السوري مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، وعلى نحو ناعم وذكي، أمراً غامضاً يملك كلمة الفصل فيها المندوب السامي في عنجر لا السادة النوّاب. وعليه، فقد جُعِلت مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، كما مسألة تكليف رئيس الحكومة، والمشاورات الملزمة، وصلاحيات الرئيس، وصلاحيات الوزير، وسواها، جزءاً من التناقض المفتعل للنصوص في وثيقة الطائف، وجرى استخدامها باعتبارها الوسيلة "الدستورية" الناعمة لتسويغ التدخل الخارجي الذي يتولى آخر المطاف وضع الأمور في نصابها "الصحيح"، الذي يخدم مصلحته القومية وغير القومية في الأمور الجوهرية وحتى غير الجوهرية في أحايين أخرى. ووفق ما قال يوماً وزير من الداخل: مواد الدستور غير متناقضة، ولكنها جُعِلت كذلك كي تكون الكلمة الأخيرة دائماً لصاحب الحل والربط آنذاك. أما حين ارتفعت يد المفوض السامي السوري فقد بان المستور، واكتشفت القوى السياسية اللبنانية أنها عاجزة في كل مسألة أساسية عن التوافق "الإيجابي"، وأن أقصى ما تستطيع أن تبلغه هو التوافق "السلبي"، أي الانكفاء والإحجام عن مقاربة أي ملف خلافي.
إذا كانت أمورنا الأساسية والفرعية، الدستورية والقانونية، السياسية واليومية العادية، على مثل هذه الحال، فكيف أمكن أن يتحرك البلد - وقد توقفنا عن قول وطن – أو أن يبقى واقفاً على قدمين وأياً يكن مبلغ هزالهما الراهن؟ البلد بالتأكيد، وفي كل أمر، ليس في أحسن حال. وكيف يكون كذلك من دون سياحة واصطياف وإشتاء، ومعدلات نمو لا تزيد عن 1 في المئة، ودين قارب الثمانين مليار دولار، ما يكاد يعادل ضعفي الدخل القومي السنوي، دون ذكر تداعيات الحرب الأهلية السورية على البلاد.
وسط لوحة الأوضاع العامة القاتمة السواد تلك، نعود إلى السؤال: كيف أمكن البلد أن يظل واقفاً، وإن عاجزاً، على قدميه؟
مردّ ذلك في رأينا لعوامل قوة ثلاثة، أولها بالتأكيد حيوية القطاع اللبناني الخاص، الذي ما زال يصارع، رغم كل السلبيات الأمنية والإدارية والخدماتية المعاكسة، فيبدع أعمالاً وأرباحاً ومن ثمة بقية من فرص العمل أمام اللبنانيين الذي ارتضوا إعالة أسرهم بما تحت خط الفقر الذي باب يشتمل على أربعين في المئة من اللبنانيين.
عامل القوة الثاني هو الإدارة المالية للبلاد التي يتولاها مصرف لبنان، وعنوانها الحفاظ بما توافر من موجودات وودائع وهندسات وأدوات تدخل على سعر صرف الليرة اللبنانية كما هو طوال عقدين ونصف العقد من الزمن، ما حال دون الاضطراب المالي والاقتصادي ومن ثم الاجتماعي بالمعنى الواسع، وعلى النحو الذي شهدته بلدان عربية عدة.
أما عامل القوة الأخير، وهو الأول في الحقيقة، فهو التماسك الأمني الوطني الذي يوفره الجيش اللبناني للبلاد. فقد أرسى الجيش اللبناني طوال أكثر من عقدين، وبفضل حكمة قياداته المتعاقبة، معالم سياسة وطنية جامعة لجهة جمعها للبنانيين من كل الأطياف والألوان، ومحايدة لجهة النأي عن التدخل في الشأن السياسي اللبناني الداخلي وفي خلافات القوى والأحزاب السياسية اللبنانية الكثيرة، المعقد منها والسخيف. لقد حافظ الجيش اللبناني، وسط صعوبات وتحديات لا توصف، على المسافة المرنة نفسها من الأطراف اللبنانية كافة، فاستحق الرضا العلني للأطراف تلك كافة. وانتهج الجيش اللبناني، إلى ذلك، سياسة وطنية متشددة حيال العدو الإسرائيلي، فاستحق ثقة المقاومة، واستحق قبل ذلك وبعده ثقة الغالبية الساحقة من اللبنانيين، مسلمين قبل المسيحيين، ويساريين قبل اليمينيين، وقوميين قبل الكيانيين، فخلق – ويا للتناقض – واحة ثقة وأمان واستقرار في بلد تعوّد زعماؤه سياسات المصالح الفئوية الصغيرة والنكد والمناكفات ومن دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية العليا، في خضم جوار متفجر وأشبه ببحر إغريقي ملحمي متلاطم يكاد يقتلع اليابسة والسماء معاً.
من مقدمتين اثنتين لا يستطيع حتى المتحامل المغرض إنكارهما، وهما:
مقدمة أولى، أمور داخلية عامة في مثل السوء الذي بتنا نراه يومياً، المتفاقم، والمنذر بالمزيد من الفشل السياسي والتراجع الاقتصادي والأزمات الكيانية التي تكاد تعيد البلاد، لولا حكمة البعض، إلى أجواء وخطابات ما قبل 1975، و1975 (خالد الضاهر والأب طوني خضرا نموذجاً)، وأمور كبرى في المحيط المشرقي والعربي القريب منّا هي في حالة تفجّر شامل غير مسبوق منذ مئة سنة بات يهدد أسس دول "تاريخية" عدة، فكيف بلبنان الوليد التسووي الرخو المفاصل والروابط الوطنية؛
ومقدمة ثانية، وهي أننا نمتلك حقاً، بالتجربة والملموس وبعشرات الأمثلة الحيّة أمامنا، أهم الأدوات الفاعلة المجرّبة لمحاولة إنقاذ سفينتنا الوطنية المتهالكة والضاربة يمنة ويساراً بين عشرات الصخور الصلدة القائمة بيننا والمحيطة بنا؛ هي وبكل علانية ووضوح: الأداة العسكرية الوطنية الراقية القائمة عندنا لحسن الحظ؛
وعليه، يغدو الاستنتاج المنطقي والبديهي والطبيعي مما تقدّم كما يلي: علامَ لا نمتلك الجرأة ونسمّي الأشياء بأسمائها وعناوينها الحقيقية، لماذا نحجم عن الاستنتاج الذي لا يختلف في توصيفه اثنان، وهو:
إننا مرضى حتى الموت ونستنكف عن تناول الدواء الشافي الوحيد – المتبقي؛ ومأزومون حتى درجة الانفجار ونأبى الاعتراف بعجز أدواتنا السياسية اليومية عن تقديم أي حل – وسط المعضلة التي قاد إليها الأخذ بتعقيدات بنود وثيقة الطائف أو بتفسيراتها لا فرق!
نخشى كلمة عسكر، ولو بالحد الأدنى، ولا نخشى تداعيات مأزق بلد في الحد الأقصى، وإلى الدرجة المهددة لأموره العامة كافة، بل لمصيره؟
ولكن قبل ذلك، من قال أصلاً أن العسكر يريد أو يرغب الخوض في المستنقع اللبناني الآسن الحالي، وهو الذي أبدى على الدوام - وبخاصة في العقدين الأخيرين – تعففاً راقياً وحرصاً متناهياً على آليات الدورة الديموقراطية البرلمانية اللبنانية؟
ونحن بالتأكيد لا ندعو العسكر إلى الإمساك بالسلطة، ولكن ألا يحق للبنانيين المصدومين حتى الموت بالمشهد السياسي الراهن أن يسمّوا الأمور بأسمائها وعناوينها الحقيقية؟ ألا يحق للمواطنين اللبنانين العاديين المتضررين من مشهد الفراغ الشامل أن يشتكوا ويتحسروا ويقارنوا هذا بذاك، وهذي بتلك، وأن يستخلصوا الخلاصات المنطقية؟
لا يطمح هذا التوصيف للوقائع، ولا خلاصته المنطقية، إلى أكثر من حثّ بل دعوة المؤسسات السياسية اللبنانية على اختلاف ألوانها ودرجاتها أن تقتدي بنجاح المؤسسة العسكرية الوطنية على الصعد كافة (الوطنية والتنظيمية والإجرائية) وبالحد الأدنى من الموارد، وأن تبادر إلى ما هو ضروري وعاجل من تعديلات دستورية وإصلاحات سياسية تعيد للسلطة في لبنان وحدتها وهرميتها وفاعليتها – وتقديمها للمصالح العليا على كل مصلحة أخرى، طائفية أو مذهبية أو حزبية أو فئوية أو شخصية.
وفوق النجاح الوطني والتنظيمي والإجرائي تأتي تضحيات العسكر الراهنة – جيش وقوى أمنية – لتعطيناً درساً إضافياً في التضحية من دون حدود على مذبح الوطن، ولتنحّي جانباً وإلى الأبد الأساليب الطائفية والشخصية والكيدية البالية التي ما زالت تتحكم بثقافة السياسة في لبنان، لمصلحة ثقافة سياسية جديدة تكون التجربة الوطنية الناجحة لجيشنا، عملاً لا قولاً، هي البوصلة والنموذج فيها.
 
كاتب واستاذ جامعي

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,181,810

عدد الزوار: 6,982,004

المتواجدون الآن: 60