السودان يبدأ مخاض مولد دولة

تاريخ الإضافة الثلاثاء 11 كانون الثاني 2011 - 7:05 ص    عدد الزيارات 2589    القسم عربية

        


السودان يبدأ مخاض مولد دولة

سلفا كير يشيد بـ«اللحظة التاريخية».. والجنوبيون اقترعوا بكثافة.. ومشاركة خجولة في الشمال *عرمان لـ «الشرق الأوسط»: نرتب لاتحاد أو كونفدرالية

جوبا: موفد «الشرق الأوسط» مصطفى سري الخرطوم: فايز الشيخ
موفد أوباما لـ «الشرق الأوسط»: الاستفتاء تاريخي * الخرطوم تنادي بالوحدة * زوجة قرنق لـ «الشرق الأوسط»: سعيدة للجنوبيين.. وحزينة لمهمشي الشمال

* رقص الجنوبيون أمس وغنوا وبكوا في الشوارع فرحا بيوم الاستفتاء الذي يقربهم من ميلاد دولتهم الجديدة بعد أكثر من 55 عاما من المعاناة والحروب مع الشمال. وفي لحظة شبهها بأنها تاريخية، أطلق رئيس حكومة جنوب السودان سلفا كير صباح أمس عمليات الاقتراع في الاستفتاء حول مصير الجنوب، الذي يستمر 7 أيام حتى السبت المقبل.

وشهدت مراكز الاقتراع إقبالا «كثيفا جدا» واستمرت حتى المساء، واصطف الآلاف في صفوف طويلة، لم تمنعهم حرارة الشمس الحارقة. وجرى الاستفتاء في كل مناطق الجنوب ما عدا إقليم «مايوم» في ولاية الوحدة التي توجد بها آبار النفط، والتي شهدت اشتباكات بين ميليشيات متمردة وجيش الجنوب. وقال كير وهو يرفع إصبعه وعليها علامة الحبر بعد الاقتراع: «إنها اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها شعب جنوب السودان». وجثت ربيكا قرنق أرملة زعيم ومؤسس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق، على ركبتيها أمام مقبرة زوجها وقامت بالصلوات ثم أجهشت بالبكاء, وقالت لـ«الشرق الأوسط»، إنها سعيدة للجنوبيين ولكنها حزينة لأن هناك الكثيرين من المهمشين في شمال السودان ما زالوا يعانون من التهميش.

 

وكان الحضور الأميركي قويا في جوبا, وقال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جون كيري: «إنها بداية فصل جديد في تاريخ السودان». كما ذكر سكوت غريشن, موفد الرئيس الأميركي باراك اوباما إلى السودان, لـ«الشرق الأوسط»: إن الاستفتاء تاريخي.. وعلى الشمال والجنوب الاعتماد علينا» وفيما شهد الاستفتاء في الشمال مشاركة خجولة, دعا القيادي بالمؤتمر الوطني محمد مندور المهدي سكان الخرطوم إلى المحافظة على الأمن في الولاية خلال فترة الاستفتاء ودعا الجنوبيين للتصويت للوحدة. ومن جانبه, قال ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة الشعبية لـ«الشرق الأوسط» إن حركته ستواصل العمل من أجل ترتيب العلاقات إما لاتحاد على أسس جديدة، أو كونفدرالية.

لحظة السودان الحاسمة

لا يحظى كل جيل من الأجيال بفرصة طي صفحة الماضي وكتابة فصل جديد في سجل تاريخ شعبه. ومع ذلك فالآن - وبعد حرب أهلية وحشية امتدت 50 عاما وأزهقت أرواح مليوني نسمة وحولت ملايين أخرى إلى لاجئين - فإن هذه الفرصة أصبحت متاحة أمام شعب جنوب السودان.

فعلى مدى الأيام السبعة المقبلة سيدلي ملايين السودانيين الجنوبيين بأصواتهم ويقررون ما إذا كانوا يريدون البقاء جزءا من السودان أو يشكلون دولتهم المستقلة. وستساعد هذه العملية - مع تصرفات القادة السودانيين - في تحديد ما إذا كان الشعب الذي قاسى الكثير من المعاناة سيمضي قدما نحو السلام والرخاء، أو ينزلق متراجعا إلى الوراء في دوامة سفك الدماء. وذلك لن تقتصر عواقبه على السودان وحسب، ولكنها ستطال أفريقيا وجنوب الصحراء الأفريقية والعالم.

إن الاقتراع التاريخي هذا الأسبوع هو في حد ذاته ممارسة لحق تقرير المصير الذي ظل يعتمل منذ وقت طويل، وهو جزء رئيسي من اتفاق السلام لعام 2005 الذي أنهى الحرب الأهلية في السودان. إلا أنه قبل أشهر قليلة ماضية، مع تأخر التحضيرات عن جدول مواعيدها، لم يكن مؤكدا أن الاستفتاء سيجرى بالمرة. ولذا فإنني اجتمعت بقادة من السودان والعالم في سبتمبر (أيلول) للتدليل بوضوح، على أن المجتمع الدولي متحد على أن هذا الاستفتاء يجب أن يتم، وأن إرادة شعب جنوب السودان يجب أن تحترم، بغض النظر عن النتيجة.

وفي خطوة مهمة إلى الأمام، وافق قادة شمال السودان وجنوبه على العمل معا - بتأييد من أكثر من 40 دولة - لضمان أن يتم الاستفتاء في موعده وفي سلام وحرية ومصداقية ويكون انعكاسا لإرادة الشعب السوداني. ويعود الفضل في حقيقة إجراء الاستفتاء في موعده إلى أولئك الذين تمسكوا وأوفوا بالتزاماتهم في السودان. فقد أعلنت حكومة السودان مؤخرا أنها ستكون أول من يعترف بالجنوب إذا صوت للاستقلال.

والآن ها هو العالم يراقب، ونحن متحدون في تصميمنا على أن تفي كل الأطراف في السودان بالتزاماتها. إذ يجب في الوقت الذي تستمر فيه عملية الاستفتاء تمكين الناخبين من الوصول إلى مراكز الاقتراع والإدلاء بأصواتهم بحرية دون ترهيب أو إكراه. وعلى الأطراف كلها أن تتجنب العبارات الخطابية الملهبة للمشاعر والأعمال الاستفزازية التي قد تثير التوترات، أو تحول دون تعبير الناخبين عن إرادتهم.

وعندما يجري فرز الأصوات وإحصاؤها، ينبغي على كل الأطراف أن يمتنعوا عن الحكم سلفا على النتيجة. فلكي تكون النتائج ذات مصداقية وموثوقا بها يجب أن تكون اللجنة المشرفة على الاستفتاء حرة من الضغوط والتدخلات. وقادة الشمال والجنوب بحاجة إلى العمل معا في الأيام القليلة المقبلة المثيرة للقلق، للحيلولة دون نشوب العنف وضمان ألا تتصاعد الحوادث المنعزلة وتتفاقم إلى وضع أوسع من عدم الاستقرار. ولا ينبغي لأي جانب في أي حال من الأحوال أن يلجأ إلى استخدام قوى بالوكالة عنه في محاولة لكسب امتياز على الآخر ونحن في انتظار النتائج النهائية. فالتصويت الناجح سيكون مدعاة للاحتفال وخطوة ملهمة في مسيرة أفريقيا الطويلة إلى الأمام على درب الديمقراطية والعدالة. ومع ذلك فإن السلام الدائم في السودان يتطلب ما هو أكثر بكثير من مجرد إجراء استفتاء موثوق به. واتفاقية السلام الشامل في عام 2005 يجب أن تطبق بالكامل، وهي اتفاقية تتطلب تنازلات من جميع الأطراف. والنزاع الحدودي ووضع إقليم أبيي، الذي يمتد في شمال السودان وجنوبه، يجب أن يسوى سلميا. كما أن سلامة ومواطنة كل السودانيين، لا سيما أفراد الأقليات منهم - الجنوبيون في الشمال والشماليون في الجنوب - يجب أن تكون محمية. وسيتعين وضع ترتيبات للتوزيع الشفاف لعائدات النفط التي يمكن أن تسهم في التنمية. وأن عودة اللاجئين يجب أن تنفذ بعناية فائقة منعا لكارثة إنسانية ثانية.

وإذا اختار الجنوب الاستقلال فإن الأسرة الدولية، بما فيها الولايات المتحدة، ستكون لها مصلحة في ضمان أن الأمتين اللتين ستنبثقان، أي الشمال والجنوب، ستنجحان كجارتين مستقرتين وقابلتين للحياة اقتصاديا، لأن مصيريهما مترابطان. وجنوب السودان، بوجه خاص، سيحتاج لشركاء في المهمة طويلة الأجل لتحقيق طموحات شعبه السياسية والاقتصادية.

أخيرا، لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم في السودان بمعزل عن سلام دائم في دارفور. فهلاك مئات الآلاف من أهالي دارفور الأبرياء ومحنة اللاجئين من أمثال أولئك الذين التقيتهم بمخيم في تشاد المجاورة قبل 5 سنوات، يجب ألا يغيبا عن ذاكرتنا. وهنا أيضا فإن العالم يرصد الأحداث. وحكومة السودان يجب أن تفي بالتزاماتها الدولية. فالاعتداءات على المدنيين يجب أن تتوقف، كما ينبغي أن تتاح لقوات حفظ السلام الدولية والعاملين في مجال المساعدات الإغاثية حرية الوصول إلى المحتاجين.

وكما أبلغت القادة السودانيين في سبتمبر، فإن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أهالي دارفور وسنواصل مساعينا الدبلوماسية لإنهاء الأزمة هناك، إلى الأبد. ويجب على الأمم الأخرى أن تستخدم نفوذها لجمع جميع الأطراف حول المائدة وضمان أنها ستتفاوض بنية حسنة. ومن جانبنا سنواصل الإصرار على أن يشمل السلام الدائم في دارفور المحاسبة على الجرائم التي اقترفت، بما فيها الإبادة الجماعية التي لا مكان لها في عالمنا.

وإلى جانب شركائنا الدوليين، ستواصل الولايات المتحدة لعب دور قيادي في مساعدة جميع أفراد الشعب السوداني على تحقيق السلام والتقدم اللذين يستحقونهما. واليوم إنني أكرر عرضي الذي طرحته على زعماء السودان، وهو أنكم إذا أوفيتم بالتزاماتكم واخترتم السلام، فهناك مسار يقود إلى علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة بما في ذلك رفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق عملية تتفق مع القانون الأميركي لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبالمقابل، فإن أولئك الذين يضربون بالتزاماتهم الدولية عرض الحائط، إنما سيواجهون مزيدا من الضغوط والعزلة.

إن ملايين السودانيين يتوافدون على مراكز الاقتراع لتقرير مصيرهم. وهي اللحظة التي يمكن للقادة الشجعان وذوي الرؤى أن يقودوا شعوبهم إلى غد أفضل. وسيتذكر التاريخ أولئك القادة الذين يتخذون الخيار الصائب وسيكون لديهم شريك راسخ في الولايات المتحدة الأميركية.

 

درس السودان على مائدة السياسي العربي

الانفصال الذي يتجه إليه جنوب السودان هل يمثل عنوان مرحلة قادمة تتجه فيها أجزاء أخرى من عالمنا العربي إلى نفس الاتجاه بمساعدة قوى خارجية ترى أن من مصلحتها تفتيت بعض الكيانات الكبيرة إلى كيانات أصغر يمكن التعامل معها بصورة أفضل، خاصة أن ثمة بوادر مطالبات في دول مثل العراق واليمن والصومال؟ ولن يقف هذا الأمر عند تلك الدول، فقد تمتد هذه النزعات الانفصالية إلى أماكن ودول أخرى، وهذا يفرض على الدول العربية أن تتفادى الأخطاء التي وقع فيها السودان، حيث شكلت تلك الأخطاء قوى دافعة مطالبة بالانفصال، فالتنمية العرجاء التي تهتم بأجزاء من الوطن الواحد، وأجزاء من سكانه، على حساب مكونات المجتمع الأخرى، هي قوى طاردة للوحدة، محفزة على الانفصال، فركائز الوحدة الوطنية المستديمة هي العدالة الاجتماعية بكل ما تحمله من مساواة، وكذلك التنمية الشاملة التي تلامس المواطن أينما كان على خارطة وطنه، وهذا ما أغفله السودان طويلا في غمرة اهتمام النخب السياسية الشمالية بدوائرها الضيقة، ولا أحد يلوم جنوب السودان في ظل الأوضاع المزرية التي يعيشها في أن يمضي في خيار انفصاله، وبدلا من البكاء على اللبن المسكوب فإن على الدول العربية إعادة قراءة خرائط أوطانها، ووضع خطوط حمراء تحت المناطق المهمشة التي تتضور جوعا، وإهمالا، وجهلا، ونسيانا، فمن هناك منابت الخطر.. واحتجاجات الجياع التي تطل برأسها هذه الأيام في أكثر من مكان في عالمنا العربي إنما هي مؤشر لاختلال الموازين داخل الوطن الواحد، ولم يكن على تلك الدول الانتظار حتى تطل الفتنة برأسها لتبدأ في الاعتراف بارتكاب أخطاء، فتقيل مسؤولين، وتنتهج تدابير، لا يفترض أن تكون غائبة عن رؤية السياسي من قبل.

إن درس السودان يفترض أن يكون على مائدة السياسي العربي، فذاك السوداني الجنوبي الذي ظل منذ استقلال السودان يرفع صوته تدريجيا مطالبا بحقوقه في التنمية كمواطن سوداني «كامل المواطنة» لم يجد للأسف من كل الحكومات التي تعاقبت على السودان، سواء كانت عسكرية أو مدنية، من يصغي إليه في ظل انشغال تلك الحكومات بتجاذبات نخب العاصمة، وما سادها طويلا من مزايدات وعنتريات، وها هو الجنوب ينسل من بين عيون الجميع كشعاع ضوء، ولا أحد يستطيع أن يجزم بأن يكون هذا الانفصال هو الأخير إن ظل ميزان التنمية الاجتماعية في أجزاء من عالمنا العربي يواصل اختلاله، ويقسم مكونات المجتمع الواحد - كما يقول إخواننا المصريون - إلى خيار وفقوس.

 

 

السودان.. وبدأ البكاء!

راقبوا ردود الفعل في عالمنا العربي حول الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، وما سيتبع هذا الاستفتاء، فاليوم بدأ البكاء على وحدة السودان، والخوف من أن يكون الانفصال، أو الانقسام، هو مصير دول عربية أخرى. لكن هل سيغير هذا البكاء، أو الصراخ، الوقائع على الأرض؟ بالطبع لا! فمشروع انفصال جنوب السودان ليس وليد اليوم أو الأمس، بل هو مطلب قديم لم تقدم له الحكومات المتعاقبة على السودان - ومعظمها جاءت إلى الحكم بالانقلابات العسكرية - الحلول السليمة لضمان بقاء السودان دولة موحدة، السودان الذي كان يقال لنا عنه في مادة الجغرافيا إنه سلة الغذاء العربي. واليوم حين يعبّر البعض في عالمنا العربي عن قلقهم مما يحدث في السودان، وخوفهم من أن يتكرر في دول عربية أخرى، فهل علينا أن نصدق ذلك، ونقول: معهم الحق؟ الإجابة: لا! فتجنيب السودان مرارة الانفصال عمل كان يجب أن يتم منذ عقود، وليس اليوم، وتجنيب الدول العربية الأخرى نفس هذا المصير المحزن لم يتم حياله شيء بعد.

فقط دعونا نتأمل أحوالنا. ولن نتحدث عن دول، بل دعونا نأخذ مثالا أبسط، وبساطته تكمن في تعقيده، وهو القضية الفلسطينية. فمن يصدق أن حركات سياسية، أو غير سياسية، تقاتل من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية، سياسيا وعسكريا، مثل كل الفصائل الفلسطينية، بما فيها السلطة، وعند توفر أول فرصة لأن تكون هناك مدينة يلتئم فيها المجلس التشريعي، ومقر للحكومة، وخلافه، يتم فيها انقلاب على السلطة بالسلاح مثلما فعلت حماس في غزة، ثم ينقسم العرب حول ذاك الانقلاب بين مؤيد ومعارض، وينتج عن ذلك الانقسام تعميق لشق الصف الفلسطيني، وبمساعدة دول عربية تعبر عن قلقها اليوم مما يحدث في السودان!

والأمر نفسه ينطبق على السودان، وإن بشكل مختلف؛ فالنظام الذي يرعى التصويت على انفصال الجنوب اليوم هو نفس النظام الذي وقف مع صدام حسين إبان احتلاله للكويت، وهو نفس النظام الذي احتضن زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن ذات يوم على أراضيه. فماذا فعل العرب، وما هي وقفاتهم الحاسمة ليس لمعاداة النظام، بل لضمان أن يتعلم السودان من أخطائه؟

وعلى ذلك يجب أن نقيس، إذا كنا نخشى فعلا على بعض دولنا من الانقسام، والأمثلة أمامنا كثيرة؛ فهناك العراق، ولبنان، واليمن، وهناك قضية الصحراء في المغرب العربي. وعليه، فما دمنا نسمح لخلافاتنا الضيقة - التي لا يمكن وصفها إلا بالمماحكات - أن توصلنا إلى هدم دولنا، فطبيعي أن نرى دولا أخرى غير السودان في طريقها للانفصال والانقسام.

ما يجب علينا أن نتعلمه هو أن الأوطان لا تبنى ولا تقوم ولا تستمر، بالتخوين والتأليب والثأر والإقصاء وانتصار طرف على آخر، كما أنها لا تقوم على المراهقة السياسية، بل تقوم على تغليب المصالح، والمشاركة، وحق المواطنة، ومراعاة الفوارق، والاختلافات الثقافية، وغيرها. وعليه، فطالما لم نقف موقفا حاسما مما حدث في غزة، ولا نقول الحقيقة حول ما يحدث في بعض دولنا العربية، فإن مسلسل الانقسام والانفصال سيطول.. للأسف.

 

 

السودان: الجنوبيون يقولون كلمتهم
جوبا: موفد «الشرق الأوسط» مصطفى سري
في لحظة شبهها بأنها تاريخية، أطلق رئيس حكومة جنوب السودان، سلفا كير، صباح أمس، عمليات الاقتراع في الاستفتاء حول مصير الجنوب السوداني، الذي يستمر 7 أيام حتى السبت المقبل.

وشهدت مراكز الاقتراع إقبالا «كثيفا جدا» منذ ساعات الصباح الأولى، واستمرت حتى المساء، واصطف الآلاف في صفوف طويلة، لم تمنعهم حرارة الشمس الحارقة التي وصلت إلى أكثر من 35 درجة مئوية. وجرى الاستفتاء في كل مناطق الجنوب ما عدا إقليم «مايوم» في ولاية الوحدة التي توجد بها آبار النفط، التي تشهد اشتباكات بين ميليشيات متمردة وجيش الجنوب. أما في المناطق الأخرى فقد جرى الاستفتاء في جو آمن، خاصة في جوبا عاصمة الجنوب، حيث استلقى بعض عناصر الشرطة والجيش الشعبي (جيش الجنوب) تحت ظلال الأشجار، يتقون حرارة الشمس ويراقبون الجموع المتدفقة.

وحتى مع مجيء وقت إغلاق المراكز في السادسة مساء بالتوقيت المحلي (الثالثة بتوقيت غرينتش)، لم تقفل غالبية مراكز الاقتراع أبوابها في جوبا، كما كان مقررا، بسبب الطوابير الطويلة من الناخبين الذين كانوا لا يزالون ينتظرون دورهم للاقتراع.

رئيس حكومة الجنوب سلفا كير أعطى إشارة الانطلاق للاستفتاء عندما حرص على أن يكون في الساعة الثامنة صباحا بمركز اقتراع يقع إلى جانب ضريح الزعيم التاريخي لجنوبيي السودان مؤسس الحركة الشعبية، جون قرنق، حيث أدلى بصوته. وقال كير وهو يرفع أصبعه وعليه علامة الحبر بعد الاقتراع، وإلى جانبه السيناتور الأميركي جون كيري: «إنها اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها شعب جنوب السودان».

وأضاف: «أقول للدكتور جون (قرنق) ولكل الذين قتلوا معه إن جهودكم لم تذهب سدى». وكان قرنق وقع عام 2005 اتفاق السلام الذي فتح الباب أمام إجراء هذا الاستفتاء قبل أن يلقى حتفه في حادث تحطم مروحية كانت تقله من أوغندا إلى جنوب السودان، في يوليو (تموز) من العام نفسه.

وجثت ربيكا قرنق، أرملة قرنق، على ركبتيها أمام مقبرة زوجها وقامت بالصلوات، ومن ثم أجهشت بالبكاء واحتضنها وزير التعاون الإقليمي دينق ألور الذي بكى أيضا ونساء أخريات. وقالت ربيكا وكانت ترتدي «تي شيرت أبيض» كتب عليه «نحن نفتقدك يا قرنق»، إنها سعيدة بأن الجنوبيين يدلون بأصواتهم ويتحقق حلمهم، وأضافت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «لكني حزينة لأن هناك الكثيرين من المهمشين في شمال السودان ما زالوا يعانون من التهميش»، وتابعت: «قلبي الآن مع جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق». وقالت ربيكا لـ«الشرق الأوسط»: «هذه فرصة عظيمة للذين فاتهم النضال أن يدلوا بأصواتهم لاستقلال الجنوب». وأضافت: «في هذه اللحظة تتحقق رؤية جون قرنق والقادة العظماء الذين استشهدوا معه»، وخصصت تحية لقائد جبال النوبة، الراحل يوسف كوة مكي، وقالت: «كنت أطبخ لهم في فترة وجودنا في الغابة أيام الحرب والنضال، وفي غمرة هذه السعادة يجب ألا ننساهم لأنهم ضحوا لأجل هذا اليوم ليجعلونا سعداء»، وأضافت: «علينا أن نعمل بقوة لحل قضية شعب النيل الأزرق وجبال النوبة وأبيي، إلى جانب حل مشكلة دارفور، ولنوقف معاناة السكان هناك».

وأكدت مفوضية الاستفتاء أن الاقتراع جرى بشكل طبيعي وهادئ في ولايات الجنوب السوداني كافة، باستثناء إقليم «مايوم» في ولاية الوحدة. وقال شان ريك، نائب رئيس مفوضية الاستفتاء، في تصريح صحافي: «حصلت معارك، إلا أنه تم احتواء الوضع» في ولاية الوحدة، مضيفا: «إلا أنني واثق بأنه لن يكون لهذه الحوادث تأثير على العملية الانتخابية». وكان الحضور الأميركي قويا في جوبا في اليوم الأول من الاستفتاء.. رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، السيناتور جون كيري، كان يقف إلى جانب سلفا كير وهو يدلي بصوته، وقال: «إنها بداية فصل جديد في تاريخ السودان، وهو فصل مهم جدا». كما قال الموفد الأميركي الخاص إلى السودان، سكوت غريشون، الذي كان حاضرا أيضا في مركز الاقتراع في جوبا: «في حال أصبح الجنوب مستقلا ستكون هناك حاجة للقيام بالكثير مع ولادة دولة جديدة.. بإمكان الشمال والجنوب الاعتماد على دعمنا».

الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، الموجود في جوبا بصفة «مراقب»، اعتبر أن المشاركة الكثيفة في الاستفتاء يجب أن تدفع «الجميع إلى القبول بنتائجه». كما قال الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي كان يرافق أنان: «إن المعلومات التي تصل إلينا من الشمال كما من الجنوب تفيد بأن الوضع هادئ ومسالم»، داعيا إلى احترام خيار الجنوبيين عبر هذا الاستفتاء.

وشارك السودانيون الجنوبيون أيضا في الاقتراع في القاهرة ونيروبي، وفي عدد من الدول الغربية والأفريقية. وبلغ عدد المسجلين للمشاركة في الاستفتاء 3 ملايين و930 ألفا في السودان والشتات، بينهم 3 ملايين و754 ألفا في الجنوب السوداني. ولا بد من مشاركة 60 في المائة على الأقل من المسجلين في الاستفتاء لكي تعتمد نتيجته.

وعبر الكثير من الجنوبيين الذين استطلعت «الشرق الأوسط» رأيهم أمام عدد من المراكز، عن فرحتهم لبدء الاستفتاء لتقرير مصيرهم بالانفصال عن الشمال، بعبارات «باي باي الشمال»، وقالوا إنهم انتظروا هذا اليوم لأكثر من 50 عاما، وإن الجنوب سينضم إلى الأمم المتحدة بعد نيل استقلاله.

وقال باراج ماتيوب، وهو من أبناء دينكا بور التي ينحدر منها الزعيم المؤسس للحركة الشعبية، الراحل الدكتور جون قرنق: «لم تغمض عيني منذ الأمس وحتى هذا الصباح انتظارا لهذا اليوم من تاريخ شعبنا.. أنا سعيد للغاية.. لا تتخيل سعادتي!». وقال جيمس قاي، وهو من أبناء بور أيضا ويعمل في جوبا، إن يوم الاستفتاء تاريخي بالنسبة إلى شعب الجنوب، وأضاف وهو يرفع علامة «الكف الواحد» التي ترمز إلى الانفصال في ورقة الاقتراع: «نحمد الله أننا موجودون لهذا اليوم، وأننا صنعنا الاستقلال مع كبارنا الذين قدموا التضحيات»، وردد كلمة زعيم الحركة الشعبية، الراحل جون قرنق: «إن السودان لن يعود أبدا كما كان سابقا».

* لقطات

* كان الغناء والرقص هو الطابع الغالب في اليوم الأول للاقتراع، وغنى الجنوبيون كل حسب قبيلته ورقصوا في الشوارع.

* لم يسجل السياسيون الشماليون حضورا في يوم الاقتراع الأول في جوبا، كما غابت الأغاني الشمالية.

* اضطر رئيس حكومة الجنوب سلفا كير أن يؤجل المؤتمر الصحافي قبل يوم من الاقتراع بسبب العدد الكبير من الصحافيين الذين وصل عددهم إلى أكثر من 500 صحافي، وقدم كلمة مقتضبة في فناء قصره الرئاسي من تحت شجرة كبيرة.

* يقوم نحو 3 آلاف صحافي ومراسل من الإعلاميين الأجانب بتغطية عمليات الاستفتاء.

* لم يسبق لجوبا أن شاهدت حضورا غربيا بتلك الكثافة قبل أكثر من 100 عام، ويستخدم غالبيتهم الدراجات النارية التي يطلق عليها محليا (بودا بودا) وتستخدم كوسيلة مواصلات، وارتفعت أسعار الأجرة لهذه الوسيلة، واستغلت الفنادق هذا الوجود فقامت برفع أسعارها حيث وصلت في بعض الفنادق قرابة 200 دولار لليلة الواحدة.

* الصحافة العربية كان لها حضور كبير، وحضر ممثلون لعدد من القنوات مثل الكويت، لبنان، مصر، العراق، والإمارات.

* أبدت الأجهزة الأمنية والشرطية كفاءة عالية بتنظيم وتأمين عملية الاقتراع رغم قلة خبرتها، مع وجود بعض التشدد والحزم المبالغ فيه في التفتيش الشخصي والحقائب، وخلت مظاهر استعراض القوة العسكرية، بل إن بعض الجنود والضباط كانوا يرقصون مع الجماهير ويعبرون عن فرحتهم.

* خلا خطاب سلفا كير من إثارة أي موضوعات خلافية تثير الحساسية، خاصة أن قادة حكومته اتهموا قبل يوم من الاستفتاء.. ويبدو أن كير أراد أن يحافظ على المناخ الاحتفالي ويبعد عن الإثارة.

* كرر سلفا كير في خطبه قبل ويوم الاقتراع بتوجيهه الأجهزة الأمنية بتحمل مسؤولياتها في حماية الشماليين في الجنوب والجنوبيين في الشمال.

* في الخرطوم مثلما نكست أسرة الزعيم إسماعيل الأزهري، وهو أول من رفع علم استقلال السودان في عام 1956، علم الاستقلال في الأول من يناير (كانون الثاني) الحالي حزنا على الأوضاع في البلاد، قامت أمس بطلاء جدار المنزل بالسواد.

* شبهت الصحف السودانية باقان أموم أحد قادة الحركة الشعبية بأزهري الجنوب.. باعتباره قائد حركة الانفصال واستقلال الجنوب عن الشمال.

 

 

مشاعر السودانيين تتدفق إلكترونيا: فصلوا الجنوب.. ودارفور في الطريق
جدة: كمال إدريس الخرطوم: فايز الشيخ
تفاوتت مشاعر السودانيين، عبر المواقع الإلكترونية، بين الحزن والفرح والأسى على انفصال بلدهم إلى دولتين، وكان لانتماءاتهم الحزبية دافع خلف المشاعر التي جاشت إلكترونيا.. ففي موقع «الراكوبة» الذي يؤمه آلاف السودانيين، اتهم عدد من المتداولين في القضية المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وقيادات الأحزاب التقليدية بدفع المجريات نحو تقسيم أكبر الأقطار في المنطقة مساحة، والتهديد بمآلات التفتيت إلى أكثر من جزء.

وكتب عضو المنبر علي إبراهيم: «فصلوا الجنوب.. ودارفور في الطريق». واعتبر أن هذا الوقت هو أسوأ مرحلة تمر على تاريخ السودان؛ حيث تغيرت خارطته الجغرافية، وقال: إن الجنوب جزء لا يتجزأ من كيان كل سوداني، وإن قرار الانقسام سياسي سيزول بزوال المتسبب.

وظل موقع «سودانيز أون لاين» يوثق لهذا اليوم منذ سنوات مضت، وزاد في نقل كل ما يكتب عن القضية من داخل السودان وخارجه بما يشكل أرشيفا تاريخيا متكاملا للأجيال المقبلة، بحسب صاحبه بكري أبو بكر، خاصة أنه ظل يجمع أبناء الشمال والجنوب في تلاقح يومي حول قضايا الوطن. وكتب الدكتور أحمد القرشي، وهو طبيب مقيم في الخليج: «انفصال جنوب السودان أصابني بألم مبرح وحزن عميق وحسرة دفينة وجرح نازف، انتابني إحساس بأن هنالك جزءا من جسدي عزيزا على نفسي يبتر غصبا عني من دون تخدير أو مسكن للألم، ليجعلني أنزف وأتوجع، لم أستطع منع عينيَّ من ذرف الدموع علها تزيل عن دواخلي الهموم وتغسل عن نفسي الأحزان، سيظل هذا الفقد يلازمني لسنوات طوال؛ لأنني تربيت على حب هذا الوطن وأبنائه من نمولي إلى حلفا، بغض النظر عن ديانتهم أو عرقهم أو لونهم». وفي منبر الرأي بمنتدى «سودانايل»، كتب الكثيرون حول مآلات الانفصال والدولة الجديدة، وشدد بعضهم على ضرورة التعايش السلمي في الفترة المقبلة، متناولين عددا من القضايا العالقة التي من شأنها تكدير صفو العلاقات بين الجانبين.

ويتيح موقع «راصد صوت السودان»، وهو برنامج شبكي تم إطلاقه بواسطة ناشطين سودانيين عبر الشبكة العنكبوتية قبيل الانتخابات الرئاسية في أبريل (نيسان) 2010، للمواطنين إرسال التقارير حول سير إجراءات التصويت والأحداث عن طريق الرسائل النصية. ويستخدم «راصد صوت السودان» برنامج «المصدر المفتوح» لإرسال وجمع وترجمة المعلومات من مراقبي منظمات المجتمع المدني في مراكز الاقتراع، كما يمكن أيضا للمستخدمين تحميل رسائل الفيديو على «يوتيوب» أو التواصل مباشرة مع مواقع شبكات اجتماعية مثل «فيس بوك» و«تويتر»، بالإضافة إلى عدة مواقع سودانية.

ويقول فريد زين، المتحدث باسم «راصد صوت السودان»: «تقوم تقنيتنا بتقديم أقرب شيء ممكن إلى رؤية اللحظة الحقيقية لما يحدث على الأرض. دورنا هو أن نجعل من الممكن للأشخاص العاديين مراقبة سير العملية». ويقوم بتشغيل «راصد صوت السودان» شبكة «أوشاهيدي دوت كوم». ومنذ أن تم نشر برنامج أوشاهيدي أولا خلال أزمة الانتخابات في كينيا عام 2008، فقد تم استخدامها في مراقبة ورصد الانتخابات في كل من الهند وبوروندي والمكسيك وأفغانستان. ويعتبر «راصد صوت السودان» ثمرة تعاون بين منظمات مجتمع مدني عدة يقودها معهد السودان للسياسات والبحوث.


المصدر: جريدة الشرق الأوسط اللندنية

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 154,054,649

عدد الزوار: 6,932,486

المتواجدون الآن: 87