مراجعة في الدستور العراقي: حدود جديدة للفيديرالية العراقية

تاريخ الإضافة الإثنين 22 آذار 2010 - 5:00 ص    عدد الزيارات 3413    القسم عربية

        


العراق دولة فيديرالية. هذا ما يقوله دستوره، في أكثر من مكان. لكن ما يقوله الدستور مثير للشكوك. كان دستور الاتحاد السوفياتي ديموقراطياً بصورة صريحة، والوسم الديموقراطي شائع جداً في الدساتير في مختلف أنحاء العالم، غير أن حالات الطوارئ الدائمة وغيرها من الأدوات المدوَّنة وغير المدونة، ناهيك عن تصوّر فضفاض إلى حد ما للديموقراطية، وحتى كلام أورويلي، تُفرِغ المفهوم من مضمونه بسهولة.
لا أعتقد أن هذه هي الحال في العراق. الفيديرالية هي شكل محدّد من أشكال تقاسم السلطة بين المركز والمناطق. في التعريف الذي أستخدمه، تمنح الفيديرالية كترتيب دستوري لتقاسم السلطة، المناطق حكماً ذاتياً خاضعاً لحدود تفرضها الحكومة المركزية، وتمنح الحكومة المركزية سلطة وطنية خاضعة لحدود تفرضها المساهمات المتباينة للمناطق. ينطبق هذا بوضوح شديد في العراق. فمن يزور النجف واربيل تلفت انتباهه على الفور درجة الحكم الذاتي الذي يتمتعان به. في بغداد، ليست الفيديرالية ملموسة بالقدر نفسه، لكنني أظن أن هذا ما يلاحظه أيضاً من يزور واشنطن أو بون. ما تفتقر إليه بغداد هو مبنى لمجلس الشيوخ، وسوف أعود للحديث عن هذه الثغرة بعد قليل.
أود أن أركّز بعض ملاحظاتي حول النظام الدستوري العراقي، وفي شكل خاص فيديراليته، على ثلاث نقاط فرعية في أفق شاسع تفتحه تجربة فريدة ومضطربة – وقد ينغلق إذا فشلت التجربة. جزء كبير من هذا الاختبار شخصي، مع أنني على يقين بأن القارئ سوف يميّز بسهولة البعد الذي لا صلة له بالموضوع في تلك اللمسة الشخصية، ويركّز على ما يُستشَف مؤسسياً من المجموعة الآتية من الأمور التي سأسردها. عندما أتحدث بصيغة المتكلم في النص، إنه في الواقع مجهود أقل فردية بكثير، وأعتذر عن اختزال العمل الذي قام به زملاء رائعون في بغداد وسولت لايك سيتي، ويستمر حتى الآن في سياق "مشروع العدالة الشامل: العراق" (www.gjpi.org).
1- البعد الأول مستمد من النقاشات المكثّفة في لجنة مراجعة الدستور من نيسان 2009 حتى نهاية العام، تاريخ انتهاء مداولات اللجنة. لقد انبثق نص عن هذه النقاشات ونُشِر على الموقع الإلكتروني لمجلس النواب. أدعم هذا النص، حتى ولو كنت أفضّل، على غرار العديد من زملائي في اللجنة، تطوير بُعد أشدّ طموحاً للمراجعة الدستورية.
لم تُنتهَز هذه الفرصة لإرساء ممارسة في الأسلوب، الأسلوب الدستوري في رأيي، مما حرم العراقيين والعالم الذي يراقبهم من مساهمة في مجال القانون الإسلامي، أي من تحديث دستوري جدّي للقانون الإسلامي. لقد ضاعت هذه الفرصة على الرغم من المواهب الاستثنائية داخل اللجنة وخارجها: ففي اللجنة، كانت هناك قيادة قوامها نحو ثلاثة أشخاص بينهم فقيه هو الشيخ همام حمودي، رئيس لجنة مراجعة الدستور وكذلك رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الذي أصبح أيضاً بعد وفاة عبد العزيز الحكيم، المنسّق الأساسي لما يُعرَف بـ"الائتلاف العراقي"، الكتلة الأكبر في مجلس النواب.
كلمة واحدة عن الشيخ همام: لا شك لدي في أنه كان ليُعتبَر لوقت طويل مرشحاً أساسياً لرئاسة الوزراء في العراق لولا ذلك العرف الدستوري المثير للاهتمام الذي تطوّر في حقبة ما بعد صدام ويحظر على رجال الدين تولي المنصب التنفيذي الأرفع في البلاد. بالفعل، لا أظن أن أياً من الوزراء ينتمي إلى فئة رجال الدين، الشيعة أم السنة على السواء. وتضم لجنة مراجعة الدستور أيضاً رئيس الكتلة النيابية الكردية، الدكتور فؤاد معصوم، وهو رجل نبيل ومحط احترام في مختلف أنحاء العراق. كان لي شرف تمضية وقت طويل معه العام الماضي، وقد اكتشفت خلاله كتابه الجميل عن "إخوان الصفاء"، وأنا أعتقد أنه لا يزال، بعد ثلاثين عاماً على إنجازه أطروحته في الأزهر، بحثاً مثيراً جداً للاهتمام حول هذه المدرسة العقلانية في أوج الإسلام الكلاسيكي. القيادي الثالث في لجنة مراجعة الدستور هو الدكتور سليم الجبوري، وهو نبيل آخر شق طريقه عبر الجسم السياسي العراقي من خلال العمل الجدّي. الدكتور الجبوري هو قانوني عصري بحكم التدريب، وهو متخصص في القانون التجاري. كما أنه ينتمي إلى الحزب الإسلامي الذي هو الحزب السني الأساسي في الحكومة ويتزعمه رئيس مجلس النواب الدكتور اياد السامرائي. يدل هذا على أنه لو أرادت لجنة مراجعة الدستور أن يكون للقانون الإسلامي دور في الدستور، لكانت قيادتها قادرة تماماً على رفع التحدي. فعلى الرغم من الحماسة التي لمستها لدى مسؤول الصياغة في اللجنة، الدكتور الياسري، ظل القانون الإسلامي بمنأى عن الدستور في العراق، وهي مسألة حسّاسة جداً في الواقع إلى درجة أن اللجنة حرصت وتعمّدت أن تتفادى أي بند يثير جدلاً إسلامياً في دستور 2005.
سوف أعود إلى هذه المسألة في الجزء الثاني عندما أعرض المخطوطة المدهشة للسيد حسن بحر العلوم. أما النقطة التي سأثيرها الآن فسلبية: لم تُسجَّل سوى اختراقات ضئيلة أو لم تُسجَّل أي اختراقات على الإطلاق في ما يختص بالقانون الإسلامي خلال اجتماعات لجنة مراجعة الدستور، ولا يختلف النص المنقَّح في هذا المجال عن شكله الأصلي الذي أُنجِز عام 2005.
وتتعلّق ملاحظة سلبية أخرى، وهذه فرصة أخرى أُهدِرت، بإعادة الترتيب المحتملة للسلطة في المركز. كان يمكن صوغ السلطات الدستورية في قلب الجمهورية بطريقة أكثر تماسكاً. لكن هذا لم يحصل.
الدستور العراقي هو إنجاز مدهش نظراً إلى الظروف التي وُضِع فيها، في خضم حرب أهلية بين العصابات وزمر الموت الشيعية والسنية، والتي كانت تحصد خلال العمل الإعدادي مئة ضحية مذهبية في اليوم. وُضِع الدستور بينما كانت الجدران ترتفع في الأحياء في بغداد، وفي مرحلة كانت تشهد تطهيراً مذهبياً حاداً، مما أنتج تحولاً خطيراً للمدينة من مجموعة متنوعة نسبياً من الأحياء المختلطة من حين لآخر إلى موطن لسكان شيعة من لون واحد في غالبيتهم. ولذلك من شبه المعجزة أن يتم التوصّل إلى وضع دستور في الأصل. غياب المشاركة السنية الجدية في صوغ الدستور الأول مثبت تماماً، وقد أعقبته ترقيعات تمثّلت في شكل أساسي في مقاعد برلمانية إضافية وفقاً لصيغة لا أزال عاجزاً عن فهمها نظراً إلى مدى تعقيدها ومجازيتها. في المقابل، بذلت لجنة مراجعة الدستور جهوداً دؤوبة وشاملة من خلال قيادتها الثلاثية، على الرغم من أن غياب فؤاد معصوم ذي الثقل الكبير بسبب الانتخابات التي أجريت في الصيف في كردستان أضعف العملية إلى حد كبير، وخفّض كثيراً فرص اعتماد النص المنقّح قبل نهاية العام.
لكن عندما ظهرت إمكانية إعادة الترتيب، أي عندما بدأت لجنة مراجعة الدستور عملها من جديد في نيسان 2009، حُدِّدت مجموعة من الإمكانيات الجريئة. يقتضي هذا عرضاً موجزاً لتقاسم السلطة الفريد من نوعه في ممارسة الدستور منذ إقراره عام 2005. لا يُستنتَج هذا بصورة بديهية عند قراءة النص، لأن بعض أهم الأحكام تظهر في القسم "الانتقالي والأخير" في نهاية النص. ومنها حكمان مهمان: الأول يتعلق بعمل لجنة مراجعة الدستور. فعندما تسارع العمل لإنجاز الدستور عام 2005، أدرك واضعوه الثغرات الكثيرة التي كان الوضع السياسي والأمني المتشنّج يفرضها على الركائز الأساسية في النص. ظل نحو 50 بنداً غير مكتملة، كما تجدون عدداً كبيراً من البنود التي تنص على أن "هذا"، أي باقي الأحكام في بند معيّن، "سوف ينظّمه القانون". في مستهل الدور الذي اضطلعنا به بصفة مراقبين-مساعدين للجنة مراجعة الدستور، حاولت أن أوصل فكرة أنه لا مكان لنص من هذا النوع في الدستور، نظراً إلى ما ينطوي عليه من خطر إضعاف البند المعني من خلال قانون يصدر لاحقاً، ولأنه في المبدأ من شأن كل ما هو وارد في البند أن يكون عرضة للاشتقاق التشريعي في شكل قوانين وإجراءات على مستوى أقل يتخذها مجلس النواب ومجلس الوزراء، هذا فضلاً عن التفسيرات الدستورية التي تتوصّل إليها المحاكم. بدا أن أعضاء  لجنة مراجعة الدستور تبنّوا تلك القاعدة الأساسية في صنع الدساتير لكنها لم تصمد في اختبار الزمن في الدورة عينها. فبعد بندَين اثنين، عادت اللجنة إلى تلك العادة المشحوذة جيداً عبر الإشارة تلقائياً إلى قانون يصدر لاحقاً. فأدركت عندئذٍ أن لازمة "ترك مسألة ما للقانون" هي طريقة للسير قدماً عندما يصطدم الأعضاء بحائط مسدود حول صياغة معينة، سواء كانت مهمة أم لا. إنه بُعد محتوم في هذا النوع من النقاشات للبند تلو الآخر في لجنة حيث لم يكن الجميع محامين دستوريين، وحيث قد يعلّق الأشخاص أهمية كبيرة على الكلمات، من دون أن تكون للكلمات البديلة بالضرورة دلالة كبيرة.
غالباً ما كنت أُسأل عن كلمة في مقابل الأخرى، وغالباً ما كنت أجيب بأنها ليست مسألة مهمة، ومع ذلك كان أعضاء اللجنة يختلفون على صيغة الحاضر أو الماضي أو الصيغة الشرطية، وعلى استعمال فعل "ينظّم" أو "يرتّب"، وصغائر مماثلة كانت تؤدي إلى حائط مسدود يُحَل عبر اللجوء إلى اللازمة المعتادة. نتيجة لهذا المزاج التوفيقي الذي ساد في الاجتماعات التي كانت تضم سبعة أعضاء في المعدل، ازداد عدد بنود الدستور من 142 إلى 193. وهكذا أظن أننا فشلنا فشلاً مزدوجاً على صعيد الأسلوب: لم يتم فقط تجاهل الإيجاز الأكثر أناقة بكثير الذي يتّسم به القانون الإسلامي، لكننا عجزنا أيضاً عن تعلّم الدرس من خطر السأم المدمّر الذي وقع فيه الدستور الأوروبي. لا يمكن أن يثير الدستور الطويل حماسة القارئ العادي. لكن من بين كل النصوص القانونية المتوافرة، الدستور هو للمواطن غير المحامي النص الوحيد الذي سيرغب في قراءته مراراً وتكراراً. الدستور المنفِّر – بسبب طوله أو أسلوبه أو افتقاره إلى الوضوح والتماسك – يجعل المواطن يجفل منه. هذا ما حدث في أوروبا، وهذا ما أخشاه في العراق.
ثمة مشكلة أخرى في عمل لجنة مراجعة الدستور تظهر في آلية المراجعة. عندما أُنجِز الدستور في تشرين الأول 2005، كان أمام لجنة مراجعة الدستور التي شكّلت امتداداً للجنة الصياغة، ستة أشهر لإتمام عملها. لكنها فوّتت المهلة تلو الأخرى، وانتهى بها الأمر مع مجموعة من الاختلافات في الرأي وفي صيف 2008 أحيلت إلى القيادة السياسية العليا كي تجد لها حلاً: وقد جرى تحديد ثماني مسائل خلافية رسمياً، لا بل خمسة مجالات للاختلاف في الرأي تتضمّن السلطة التنفيذية – صلاحيات الرئيس ورئيس الوزراء – والمسائل الفيديرالية التي تقع ضمنها لائحة الشؤون الفيديرالية حصراً، وإدارة النفط وعائداته، ووضع بغداد كعاصمة، إلى جانب نقطتين صعبتين أخريين، كركوك والأحوال الشخصية في العراق (تقرير 7/7/2008). قدّمت اللجنة في بعض الحالات حلولاً بديلة، لكن لم يحصل شيء داخل القيادة السياسية للتوصل إلى اتفاق في شأنها.
عندما اجتمعت لجنة مراجعة الدستور من جديد في ربيع 2009، عمدت بدلاً من ذلك إلى مراجعة الدستور بنداً تلو الآخر، كبديل من التركيز على مجموعة النقاط الخلافية العالقة. لكنني كنت قد حضّرت في بداية عمل اللجنة، وبناءً على طلب منها، عدداً من الدراسات حول مسائل دستورية متنوّعة يتعلّق بعضها بالهيكلية الدستورية الإجمالية. وكان أحد الاقتراحات التي قدّمتها الانتقال إلى نظام رئاسي، الأمر الذي انتقده رئيس الوزراء خلال نقاشاتنا. وعارضه الأكراد بشدة. كنت أعلم أن الاقتراح لن ينجح، لكنني اعتبرت أن مهمتنا هي تقديم مجموعة واسعة من الاحتمالات – وهنا أعرب من جديد عن احترامي لزميلتي الأميركية المسؤولة عن الشؤون الدستورية والتشريعية في السفارة الأميركية، أيبريل بويل-ويلينغهام، التي قالت إنه من المهم أن يُطرَح الاقتراح على النقاش كي يقرّر العراقيون.
أثار اقتراح آخر حاولنا عرضه على لجنة مراجعة الدستور نقاشاً أكثر تروياً، على الرغم من أنه لم يُكتَب في المراجعة. كانت الفكرة الاحتفاظ بمجلس الرئاسة إلى جانب مجلس الاتحاد المخطط له. ورد ذكر مجلس الرئاسة لأول مرة في القسم الانتقالي، وبدا مفيداً للغاية لتماسك البلاد. يتألف من رئيس ونائبَي رئيس، وهم حكماً كردي وشيعي وسني، ويملك حق استخدام الفيتو لنقض التشريعات التي تحتاج عندئذٍ إلى غالبية نيابية أكبر كي يتم إقرارها. في الإجمال، أصبحت العملية التشريعية بطيئة بهذه الطريقة، لا سيما أن مجلس الرئاسة لم يكن يولي دائماً الاهتمام الكافي للمهلة القصيرة المحددة بعشرة أيام لرفض القانون. والإجراء الأقل حكمة هو منح أي من الأعضاء الثلاثة في مجلس الرئاسة حق استخدام الفيتو. وكانت ممارسة هذا الحق من جانب نائب الرئيس السني، طارق الهاشمي، لنقض القانون الانتخابي في تشرين الثاني 2009 مظهراً مفرطاً من مظاهر هذا الترتيب، وهكذا ليس الفيتو قراراً جماعياً أو حتى قراراً يُتّخَذ بغالبية عضوَين من أصل ثلاثة. بإمكان واحد من الأعضاء الثلاثة في مجلس الرئاسة أن يقوّض دائماً التشريع الذي يقرّه البرلمان. كانت هذه السلطة غير مستدامة منذ البداية، وقد نص الدستور على التخلي عن مجلس الرئاسة المؤلف من ثلاثة أعضاء واستبداله برئيس واحد لا يملك حق نقض التشريعات ما إن يتم تشكيل البرلمان الجديد سنة 2010.
في أحد الاقتراحات التي قدّمناها، يحتفظ مجلس الرئاسة بفيتو محدود، وتعزّزه غرفة عليا تشريعية نافذة تُعرَف بمجلس الاتحاد. وكانت إحدى النقاط المركزية في الاقتراح تقضي بالبناء على النظام المذهبي المفتوح وغير الخاضع للمحاصصة الطائفية في العراق حيث، وخلافاً للبنان، لا يُعيَّن الشخص في المنصب على أساس إتني (كردي) أو مذهبي (شيعي، سني). بدلاً من ذلك، اعتبرت الحجة أن إنشاء مجلس الاتحاد والاحتفاظ بمجلس رئاسة مطواع هما وسيلتان لصهر البوتقة العراقية أكثر فأكثر من أجل الحد من المذهبية مع تعزيز رابط أكثر مباشرة بين الناخبين وممثليهم الرفيعي المستوى، تحديداً رئيس الوزراء ورئيس مجلس الرئاسة.
يتبيّن في النص النهائي للجنة مراجعة الدستور أنه لم يتم الأخذ بهذا الاقتراح، على الرغم من أن صياغة المادة 188 الجديدة تبعث على الاستغراب. فهي تنص على الحاجة إلى "أن يعاد العمل بالمواد الخاصة برئيس الجمهورية بعد تشكيل مجلس الاتحاد، ولو لم يكن ذلك لفترة تزيد عن دورة تشريعية واحدة". يشير هذا على ما يبدو إلى أن مجلس الاتحاد ومجلس الرئاسة/الرئيس سوف يتعايشان في دورة تشريعية واحدة لمجلس الاتحاد، مما يشكّل صدى للاقتراح الذي تقدّمنا به بالإبقاء على المجلسَين، على الأقل في الدورة الأولى لمجلس الاتحاد.
وهكذا لم نستطع إقناع أعضاء لجنة مراجعة الدستور باعتماد الكثير من التوجيهات والمبادئ المقترحة التي توصّلنا إليها في أسبوع محموم من العمل في نيسان 2009 بناءً على طلبهم، على الرغم من أن الثقة المكتسبة في أهمية الدستور كانت ملموسة. ربما كان علي أن أكون أكثر فاعلية أو مكراً أو حذقاً. أتأسف بالتأكيد على ما حصل، لكن العراقيين أدرى بما تحتاج إليه بلادهم. ومع ذلك، أدعم النص الجديد. وذلك لاقتناع واحد أساسي ذي طبيعة سياسية. فكل الكلام عن المصالحة الوطنية عقيم في المنحى الذي يطغى على المشهد العراقي، فالتجربة الديموقراطية لا تزال يانعة جداً، والمتحدات والكتل السياسية متباعدة ومرتابة جداً بعد أربعين أسبوعاً من العنف المستمر. عنى الاتفاق على نص كما فعلت لجنة مراجعة الدستور أن الفصائل الأساسية اتفقت على إطار مؤسسي جدي لتسوية النزاعات، وهذا ما يقدّمه الدستور. هذا أفضل وأكثر ديمومة بكثير من أي مصالحة مفتعلة. في المدى الأطول، هناك سبب آخر يجعل التقدم الذي حققته لجنة مراجعة الدستور يستحق الاحترام والدعم. فقد وفّر مأسسة أفضل للفيديرالية من خلال إنشاء مجلس الاتحاد. كان قد تم الاتفاق على تشكيل المجلس في المادة 65 من الدستور الحالي، لكن لم تُقرَّر تركيبة المجلس ولا صلاحياته، وهكذا كان العراق الفيديرالي يعمل من دون مؤسسته الفيديرالية الأهم ألا وهي مجلس الاتحاد. وقد تمت معالجة هذا الأمر في المراجعة التي أجرتها لجنة مراجعة الدستور. وهذا كافٍ في ذاته لتعزيز الهيكلية الفيديرالية بصفتها تجربة ديموقراطية فريدة. يجب أن تحتل هذه المهمة الأولوية بالنسبة إلى مجلس النواب والحكومة المقبلتَين.
2- المحطة الثانية في الأفق الجديد الذي أردت مشاطرتكم إياه هي كتاب السيد حسن بحر العلوم "الإسلام والفيديرالية". مجدداً اعذروني على المقدمة التي أنقل فيها رواية شخصية، لكنها تساعد على تهيئة ساحة غير عادية. أمضيت كما يعلم بعضكم، جزءاً كبيراً من شبابي في دراسة النجف وعلمائها المعاصرين، ولا سيما الراحل محمد باقر الصدر. ولا أبالغ على الإطلاق إذا قلت إن ذلك غيّر حياتي، بما في ذلك من خلال صداقة استثنائية مع الغربي الآخر الذي كان قد سبقني في هذا الاهتمام الغامض، وهو الأب جون دونوهو، رئيس البعثة الاستثنائية "اليسوعيون عند نهر دجلة".
اغتيل الصدر بأمر من صدام حسين في 8 نيسان 1980، وقد بدأ عملي حوله بعد عامين، وأنجزت أطروحة الدكتوراه في 1989-1990. إذاً لم ألتقه قط، لسوء الحظ، لكنني حظيت بفرصة لقاء العديد من زملائه ورفاقه الذين شكّلوا على مر السنين الجزء الأكبر من المثقّفين في النجف الذين كنت أكترث لهم. ووسط المواهب الهائلة، ثمة صداقة مميّزة جداً بالنسبة إلي، وهي صداقتي مع عائلة بحر العلوم. السيد، كما أسمّيه، هو قوة من قوى الطبيعة، وقد بُنيَت حوله المعارضة العراقية برمتها في أوجها. غالباً ما كنت ألمس في لندن قلقه من أن تدهمه المنية قبل أن يتمكن من العودة إلى النجف العزيزة على قلبه والتي غادرها سراً في 1968-1969 بعيد وصول حزب البعث إلى السلطة، فكان ضحية قيام توتاليتارية مخيفة، شأنه في ذلك شأن الكثيرين ممن سبقوه مثل الرفاق في البعث الذين قتلهم الثنائي الجديد بكر-صدام، واليهود المتبقين في بغداد وجون دونهو واليسوعيين في العراق. يجب وضع كتاب ضخم عن محمد بحر العلوم كمفكّر إسلامي عميق وبعيد عن الأضواء – كان يرفض دائماً لقب "آية الله" العقيم، والذي كان بالتأكيد يستحقه أكثر بكثير من أي عالم عراقي آخر على قيد الحياة، لو أراد ذلك. ويجب أن يتضمن الكتاب أيضاً فصولاً طويلة عن بحر العلوم كقائد سياسي عقب اغتيال زميله الأقرب إليه، مهدي الحكيم، في الخرطوم، فقد لمّ بحر العلوم شمل المعارضة العراقية. وكان أول رئيس لمجلس الحكم العراقي، الحكومة الأولى في حقبة ما بعد صدام، وقد غادر هذا المنصب بعد شهر للسماح لزملاء آخرين بالحصول على حصتهم من "الرئاسة". وقد يكون بحر العلوم الشخصية الوحيدة في العراق الحديث، وربما أيضاً في العالم الإسلامي الحديث، الذي حصل على ثناء واسع جداً من شخص بوزن المبعوث الأميركي النافذ بول بريمر، من دون أن يجرؤ أحد في العراق على التشكيك في وطنيته العراقية، أو في أصالة إسلامه. لكنني أود الإشارة إلى أن هذا ليس الإرث الأكثر ديمومة الذي خلّفه بحر العلوم. فعلى غرار العديد من أبناء النجف، إنه شاعر استثنائي.
إذاً هذا هو مسرح المحطة الأخرى في الأفق الفيديرالي، إنها تلك الأمسية مع السيد في نيسان 2009. كنت متلهفاً لرؤية النجف التي زرتها عام 2004 لمعاينة المكان الذي عاش فيه محمد باقر الصدر، وأمضيت بعض الوقت "الهاملتي" مع حفار القبور الذي قال إنه شهد دفن الرجل العظيم عام 1980، ثم تابع كل المراحل عندما نقلت السلطات الضريح لتفادي تحوّله نقطة تجمع سياسية للمتفجعين على موته في السنوات اللاحقة. هذه المرة، أردت أن أحشد بعض الدعم لجهودنا الدستورية، وأملت في مناقشة هذه التطورات مع بعض المراجع البارزة، بينهم بحر العلوم. وكان لي أيضاً شرف حضور محاضرات ألقاها أحد الفقهاء الصاعدين في النجف، وكان بينها محاضرة مذهلة عن قانون الميراث كموضوع من مواضيع النظرية القانونية الإسلامية. كما تشرّفت بالطلب الذي وُجِّه إلي بإلقاء محاضرة في كلية الثقلين التي أنشأها بحر العلوم مع نزعته التحديثية على الدوام، حيث تحدثت عن ثلاثة رجال عظام من النجف الحديث درست و/أو عملت معهم.
في تلك الأمسية، في مأدبة أخرى في منزل السيد، كنا ثلاثة، السيد الكبير وابن شقيقه حسن وأنا. لكن المأدبة كانت فكرية، وأمضينا أمسية طويلة في الحديث عن السياسة والأدب والشعر. تملك النجف حتماً التركّز الأكبر من الشعراء في مختلف أنحاء العالم. يتحدث الفقيه في النجف عن الشعر بالسهولة نفسها التي يتحدث فيها عن النثر.
وقد انبثق عن ذلك الاجتماع كتاب استثنائي لإرثنا. ففيما اتفقنا على أن الفيديرالية مفهوم مثير للاهتمام إنما غير مستوعَب جيداً، أبدى حسن بحر العلوم اهتمامه بسبر أغوارها أكثر فأكثر من وجهة النظر القانونية الإسلامية. إرث الإسلام في القانون العام ضئيل، كما قال السنهوري العظيم. الترتيبات الدستورية التي انبثقت عن الثورات الأطلسية في أواخر القرن الثامن عشر لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم. تبدأ المرحلة الدستورية في ذلك الوقت، ويمكن التكهّن عن العلاقة بين صعود الرأسمالية وظهور البورجوازية والعقد الاجتماعي كامتداد للعقد الخاص في تلك الفترة من أجل سد الثغرة بين الطبقة الجديدة والحاجة إلى اليقين في المعاملات في وجه الحكم الملكي المطلق. الواقع هو أن الدساتير هي ظاهرة حديثة، وأن الدساتير السابقة للحقبة الدستورية هي تراكيب لاحقة للحدث.
بحلول القرن الحادي والعشرين، أصبحت الدساتير هي المعيار. لكن الدساتير الفيديرالية لم تكن تشكّل المعيار في أي مكان في الشرق الأوسط. الطريقة التي دخل بها مفهوم الفيديرالية العراق مثيرة للدهشة، وتستحق التوقف عندها. عندما تغير النظام، كانت الفيديرالية قد ترسّخت بقوة في أذهان القادة في اثنتين من المجموعات السياسية - الاجتماعية في العراق، الأكراد والشيعة. لكنها كانت تفتقر إلى أساس تربوي حيث إنها لم تكن قط جزءاً من منهاج كلية المحاماة أو من ممارسة الحكم أو من المحاكم، وبالأهمية نفسها، لم تكن قط جزءاً من النظرة العالمية للفقهاء الإسلاميين الكلاسيكيين. كان حسن بحر العلوم يملأ وحده هذه الثغرة التربوية الأساسية.
"الإسلام والفيديرالية" أطروحة مثيرة للإعجاب أُنجِزت في أقل من عام. تتألف من ثلاثة أجزاء أساسية. يناقش الجزء الأول نظريات الحكم من وجهة نظر قانونية إسلامية. ويعرض الثاني مقارنة بين "أشكال الدولة" في الثقافة الأوروبية كما تنقلها إلينا الآن الكتب الكثيرة المتوافرة باللغة العربية. أما الجزء الثالث فينظر في الترتيبات الفيديرالية الأولى في القانون والتاريخ الإسلاميين، مع قسم أخير يربط بين استنتاجات الفصل الأول حول الحكم وفائدة الفيديرالية في ضوء القراءة الجديدة لأشكالها البدائية في العصر الإسلامي الكلاسيكي.
3- البعد الثالث مستمد من عطلة نهاية أسبوع غنية بالمعلومات بطريقة استثنائية أمضيتها عبر التمتّع برفقة الرئيس العراقي جلال طالباني.
 

• • •
 

منذ أفلاطون وأرسطو، يعبث العقل بتصنيف الحكومات. في الجمهورية، يضع أفلاطون الديموقراطية، إلى جانب الأوليغارشية، في أسفل التصنيف، والجمهورية بصفتها حكم الفيلسوف-الملك في القمة. ليس أرسطو واثقاً إلى هذه الدرجة مع أن تصنيفه يشمل أيضاً الديموقراطية والأوليغارشية كفئتين أساسيتين.
السؤال المطروح هو الآتي: كيف ولماذا يدّعي العراق أنه فيديرالي؟ والأهم من ذلك، ما مدى فيديراليته بموجب مفهوم الفيديرالية المتعارف عليه في شكل عام؟

شبلي ملّاط     


المصدر: جريدة النهار

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,247,283

عدد الزوار: 6,942,027

المتواجدون الآن: 116