تقارير..تونس: العنف والتحدي السلفي..الأزمة السِّياسيّة في تونس.....الأردن: الانتخابات النيابيّة والإصلاح السياسيّ......التنسيق بين سياسة الولايات المتحدة وتركيا بشأن العراق

سبل تفعيل استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران....أزمة مالي والتدخل الخارجي

تاريخ الإضافة الخميس 28 شباط 2013 - 5:54 ص    عدد الزيارات 1970    القسم دولية

        


 

سبل تفعيل استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران
مايكل سينغ.. مايكل سينغ هو المدير الإداري لمعهد واشنطن.
بدأت المفاوضات بين إيران ومجموعة «الخمسة زائد واحد» -- بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة -- في مدينة ألماتي بكازاخستان في نطاق جولة جديدة من المحادثات حول البرنامج النووي بعد فترة من الجمود دامت ثمانية أشهر. وتأتي هذه القمة بعد أن رفضت طهران العرض الذي قدمته مجموعة «الخمسة زائد واحد» الذي تضمن حزمة من المحفزات في مقابل فرض حدود قصوى على الأنشطة النووية الإيرانية. ويتضح جمود تلك العملية إن لم يكن انحدارها من المباعدة بين مواعيد الاجتماعات لفترات طويلة والخلافات المعتادة الدائرة حالياً حول مكان انعقاد المناقشات: فبعد ثماني سنوات من المناقشات متعددة الأطراف وأكثر من عقد من التحذيرات العسكرية ضد إيران، لا تزال القضية النووية الإيرانية تستعصي على جميع محاولات التوصل إلى حلول لها. وقد أدى هذا بدوره إلى البحث عن حلول سهلة وبسيطة، مثل فرض المزيد من العقوبات أو محادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. غير أن ما هو مطلوب حقاً هو وضع منهج منظم ومنسق قائم على استخدام عوامل تأثير متعددة في آن واحد، حيث غاب هذا النوع من المحاولات عن واشنطن وحلفائها لفترة طويلة.
استراتيجية الولايات المتحدة ومجموعة «الخمسة زائد واحد»
تقوم الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران على سياسة المسارات المزدوجة. إلا أنه لبعض الوقت استمر تفعيل مسار واحد فقط -- وهو العقوبات -- في حين تعثر المسار الآخر -- وهو المفاوضات -- دون تحقيق أي مردود إيجابي. وفي الماضي، كان هذان المساران يسيران بالتوازي حيث كان يجري عقد جولات من المحادثات بين فترات تتخللها قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي تقضي بفرض عقوبات قاسية. أما اليوم، فلم يعد الضغط يأخذ الصبغة الدولية بل أصبح الاعتماد منصباً على الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما أصبحت العملية متتالية وليست متوازية -- حيث تتباعد الفترات بين المحادثات لمدد طويلة كما تأخذ المحادثات طابعاً شكلياً بشكل متزايد، وتواصل واشنطن زيادة فرض العقوبات على أمل إجبار طهران بأن تصبح أكثر ميلاً للمصالحة والتهدئة. وحتى الآن لا توجد مؤشرات قوية على أن هذا المنهج يحقق النجاح المرجو.
مما لا شك فيه أن الاقتصاد الإيراني يعاني من ضغوط طاحنة مع وصول معدل التضخم إلى نسب تتراوح ما بين 27 في المائة و 110 في المائة (وفقاً لتقديرات شديدة التباين) والهبوط الحاد في قيمة الريال الإيراني. كما تفيد التقارير بأن النظام يعاني من صعوبات حادة في تنفيذ المعاملات المالية والتجارية الدولية بسبب العقوبات التي فرضتها واشنطن لأول مرة في منتصف العقد الماضي. كما هبطت صادرات النفط الإيرانية -- التي تعد مصدر طهران الرئيسي من الإيرادات والعملة الأجنبية -- إلى 1.3 مليون برميل يومياً بعد أن كانت 2.2 مليون برميل يومياً قبل عام 2012. ومن المحتمل أن تواجه هذه الصادرات المزيد من القيود بسبب العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة لمنع مستوردي النفط من دفع الإيرادات إلى إيران.
وحتى الآن لا تُعد جميع المؤشرات الاقتصادية سلبية بالنسبة للنظام. ورغم التراجع الحاد في صادرات النفط إلا أن المعدل آخذ في الارتفاع عن المستوى الأدنى الذي سجله في شهر أيلول/سبتمبر والذي وصل إلى 900,000 برميل في اليوم، كما وصل متوسط سعر النفط العالمي إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2012. بالإضافة إلى ذلك، أثبتت طهران -- كغيرها من الأنظمة المستهدفة بالعقوبات -- قدرتها الفائقة على إيجاد حلول بديلة. ورغم السرعة الجديرة بالثناء التي تعمل بها واشنطن في سد أي ثغرات فور ظهورها، إلا أن الضغط الاقتصادي لم يؤدِ حتى الآن إلى ظهور أي مؤشرات واضحة على حدوث اضطرابات أو انشقاقات واسعة داخل النظام، وبالتالي لم ينتج التحول الإستراتيجي المطلوب بين القادة الإيرانيين.
ويرجع هذا الفشل جزئياً إلى النهج الأحادي للسياسة الأمريكية -- فبينما تم تعزيز العقوبات، تلاشت أشكال أخرى من الضغط أو ذهبت أدراج الرياح. على سبيل المثال، لم تبذل واشنطن سوى جهوداً محدودة لدعم المعارضة الإيرانية أو تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام. وعلى الرغم من مواصلة المسؤولين الأميركيين إصرارهم على أن يظل الخيار العسكري "مطروحاً على الطاولة"، إلا أن مصداقية هذا الخيار ضعُفت بسبب إخراج حاملة طائرات من الخليج الفارسي وتردد واشنطن في التدخل بشكل أكبر في الشأن السوري وتعيين وزير دفاع جديد يشتهر بمعارضته للضغط العسكري على إيران. كما رفضت الولايات المتحدة حتى وضع خطوط حمراء عامة على البرنامج النووي الإيراني وقدمت بدلاً من ذلك تعريفات مبهمة ومتغيرة للأسباب التي قد تدفعها إلى التفكير في القيام بعمل عسكري.
لقد عملت واشنطن على دمج هذه الحزمة من السياسات -- التي تشمل الضغط الاقتصادي الذي يبدو أن النظام يعتقد بقدرته على التغلب عليه والحد من الضغط العسكري والتردد في دعم المعارضة الإيرانية -- بشكل تدريجي في العروض الأكثر سخاءً من مجموعة الدول الخمس زائد واحد. ومثل هذا الدمج يعزز فكرة أن الولايات المتحدة متجهة نحو الخروج [الكامل] من الشرق الأوسط وهذا هو الرأي الشائع في إيران وبين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا يؤدي بدوره إلى خطرين: الأول، أن إيران سوف تشعر بعدم ضرورة مراجعة سياساتها وستحاول انتظار خروج الولايات المتحدة، والثاني، أن بعض الدول مثل الصين والهند سوف تتراجع عن تقليل وارداتها من النفط من إيران، في محاولة لتأمين نفسها عن طريق تحقيق التوازن بين التعاون مع الولايات المتحدة والحفاظ على علاقات جيدة مع طهران. وهذا السيناريو هو الأرجح خاصة إذا كانت تلك الدول تعتقد أن الولايات المتحدة سوف تواصل التنازل عن العقوبات وتمتنع عن اتخاذ أي عمل عسكري.
الاستراتيجية الإيرانية
من جانبها، من الواضح أن طهران متمسكة بإستراتيجية طويلة الأمد للتوسع البطيء في برنامجها النووي مع الحفاظ على المحادثات مع مجموعة «الخمسة زائد واحد» كأداة ضغط لمنع الولايات المتحدة أو إسرائيل من اتباع نهج أكثر عدائية. وعلى الرغم من أن أنشطة إيران النووية الأخيرة قد تبدو من الوهلة الأولى متناقضة، إلا أنها في الواقع تدل على إستراتيجية مدروسة.
وتقوم إيران حالياً بتوسيع وتعزيز بنيتها التحتية النووية، عن طريق تركيب المزيد من أجهزة الطرد المركزي في محطة التخصيب الرئيسية في نطنز مع استكمال تركيب شلالات أجهزة الطرد المركزي في محطة فوردو. كما يقوم النظام أيضاً بمضاعفة مخزونه من اليورانيوم منخفض التخصيب، مع البدء بتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة قد تساعد على زيادة القدرة على التخصيب واستمرار التقدم في طريقها المحتمل لتوفير البلوتونيوم من أجل تصنيع سلاح باستخدام "مفاعل طهران البحثي" ومفاعل IR-40 في أراك. وفي الوقت ذاته، تقلل إيران من مخزونها من العديد من المواد النووية الأكثر إثارة للقلق -- 19.75 في المائة من اليورانيوم المخصب -- بحيث لا تكون كافية لتصنيع سلاح نووي واحد عن طريق تحويل بعض منها إلى شكل أكسيد للاستخدام الظاهري غير الحقيقي في "مفاعل طهران البحثي".
وبالنظر إلى كل هذا، لا تشكل تلك الأنشطة "مؤشرات متضاربة"، بل إنها تأتي متسقة مع الإستراتيجية المذكورة أعلاه. فالنظام يحافظ على خيار صنع سلاح نووي -- ويعمل على تقليل الوقت اللازم لذلك عن طريق إدخال تطورات على بنيته التحتية اللازمة للتخصيب -- مع الحرص على عدم تجاوز الخط الأحمر الذي وضعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كلمته أمام الأمم المتحدة عام 2012 التي حذر فيها قائلاً إنه لو اتضح أن إيران لديها يورانيوم مخصب حتى 19.75 في المائة يكفي لصنع قنبلة واحدة فإن ذلك سيؤدي إلى القيام بعمل عسكري. وبالإضافة إلى أن هذه الإستراتيجية تقلل بشكل كبير من المدة التي تحتاجها إيران لتجاوز العتبة النووية، فهي أيضاً تقلل من وقت الاستجابة الأمريكية في حالة استمرار النظام في هذا الطريق.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، تحافظ إيران على مسار ثابت نسبياً، حيث تصر على أنه يجب الاعتراف بـ "حقها" في التخصيب ورفع جميع العقوبات كجزء من أي اتفاق نووي. كما أنها تسعى لوضع قضايا إقليمية مثل سوريا والبحرين على جدول أعمال المحادثات. وحتى إذا كان النظام يسعى حقاً إلى التوصل لاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، فمن المحتمل أن يحاول تأجيل أي مناقشات جادة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو وذلك من أجل الحد من أي اضطراب سياسي.
الطريق إلى المستقبل
في الوقت الذي يتزايد فيه الشعور بالإحباط بين مجموعة «الخمسة زائد واحد»، تعالت الأصوات الداعية لإجراء مباحثات أمريكية إيرانية مباشرة. وعلى الرغم من أن إدارة أوباما رحبت منذ وقت طويل بإجراء مثل هذه المحادثات، إلا أن طهران قد رفضتها. وربما يتخوف القادة الإيرانيون من أن التقارب مع واشنطن قد يُضعف أحد المبررات الوجودية للنظام الإيراني الذي قام على أساس العداء للولايات المتحدة، فضلاً على أن مثل هذا التقارب سيفتح الباب أمام حدوث تغيرات سياسية واقتصادية قد تعجل حدوث تحول في البلاد. وحتى في ظل الظروف العادية، فإن هذا الاحتمال قد يكون مفزعاً لنظام يواجه أزمة شرعية في الداخل، ولكنه لا يلقى ترحيباً من الجانب الإيراني ولا سيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية واحتمال تجدد الاضطرابات بصورة مماثلة لما حدث في حزيران/يونيو 2009.
وبدلاً من السعي نحو اتباع طرق بديلة، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها التركيز بشكل أكبر على استراتيجيتهم الحالية والحفاظ على تماسكهم. ولكن ينبغي إيلاء اهتمام خاص لضمان استمرار هذا النهج بمرور الوقت حيث يمكن إحداث تأخير طويل المدى في تقدم إيران في برنامجها النووي حتى وإن تعذر التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن. وعلى وجه التحديد، ينبغي أن تشتمل أي استراتيجية جديدة على أربعة عناصر:
·     العقوبات الاقتصادية: ينبغي على واشنطن وحلفائها زيادة العقوبات غير أنه ينبغي عليها توجيهها نحو النظام وأنصاره للحد من تداعياتها على الشريحة الأوسع من السكان. ويشمل هذا اتخاذ إجراءات أكثر قوة لتقليص إيرادات النفط الإيرانية إلى جانب بذل جهود أكثر جرأة للحد من تحرك رموز النظام واستهداف أصولهم المالية.
·     الضغط العسكري: يجب أن تعزز واشنطن من مصداقية تهديدها العسكري من خلال انتهاج العديد من الطرق: عبر إظهار مزيد من الانضباط في رسائلها العلنية بشأن الخيارات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية، وزيادة التعاون العسكري مع الحلفاء الإقليميين، وتبني نهج أكثر فاعلية بشأن القضية السورية، وتحديد خطوط حمراء أكثر وضوحاً بشأن برنامج إيران النووي.
·     دعم المعارضة: ينبغي على الولايات المتحدة مضاعفة جهودها لمساعدة المعارضة الإيرانية وتعزيز المكانة الدولية للمنشقين الإيرانيين. وقد يأخذ هذا الأمر أشكالاً تقليدية (على سبيل المثال، اجتماع مسؤولين أمريكيين مع شخصيات من المعارضة ولفت الانتباه إلى قضيتهم) وغير تقليدية (مثل مساعدة المعارضين على هزيمة جهود النظام للتدخل في اتصالاتهم ونقل معلوماتهم).
·     المفاوضات: ينبغي على واشنطن أن تترك الباب مفتوحاً لإجراء محادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وايران بغية إظهار النوايا الطيبة للحلفاء والشعب الايراني. ومع ذلك لا ينبغي عليها أن تسمح باحتمال أن تصرف هذه المناقشات الأنظار عن مفاوضات مجموعة «الخمسة زائد واحد» التي لا تزال المنتدى الأفضل لحشد الضغوط الدولية على إيران.
 
 
التنسيق بين سياسة الولايات المتحدة وتركيا بشأن العراق
معهد واشنطن...مايكل نايتس.... مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومقره في بوسطن.
من المرتقب أن يزور جون كيري تركيا قريباً ضمن جولته الخارجية الأولى بعد تعيينه وزيراً للخارجية الأمريكية. وسوف تتناول الزيارة جملة من القضايا فضلاً عن أنها ستمثل فرصة حيوية لتقريب وجهات النظر بين تركيا والولايات المتحدة بشأن العراق. وتخشى واشنطن من أن تسبب علاقة تركيا المتنامية مع "حكومة إقليم كردستان" في نشوب صراع مفتوح بين بغداد وأربيل. ومع ذلك تتشابه الأهداف الأمريكية والتركية في العراق بشكل لافت للنظر مما يوفر أرضاً خصبة للتعاون الاستراتيجي إذا تجاوز كلا الجانبين خلافاتهما التكتيكية وركزا على الأهداف المشتركة بينهما.
الخلفية
على مدار ما يقرب من أربع سنوات بعد غزو العراق عام 2003، أبدت واشنطن استياءها إزاء موقف أنقرة الرافض لفتح جبهة عسكرية ثانية عبر الأراضي التركية. وقد تم رأب ذلك الصدع بحلول عام 2007 مما مهد الطريق لعامين استطاعت الولايات المتحدة خلالهما تشجيع أنقرة على لعب دور مثمر للغاية في توحيد الفصائل العراقية وبناء علاقة تركية جديدة مع "حكومة إقليم كردستان". ولكن منذ عام 2008 فصاعداً، بدأ التعاطي التركي مع العراق ينحرف عن خطة الولايات المتحدة مما أدى إلى تعميق المخاوف في واشنطن. ومنذ ذلك الحين فضلت أنقرة تدريجياً التعامل مع "حكومة إقليم كردستان" والفصائل العربية السنية إلى جانب التحريض على حدوث انهيار كارثي في علاقاتها مع رئيس الوزراء نوري المالكي، لا يزال قائماً حتى اليوم.
غير أن المفارقة في الوضع الحالي هي أن أهداف واشنطن وأنقرة في العراق متطابقة تقريباً. فكلا الحكومتين ترغب في تفادي وقوع أي صدام عسكري بين بغداد و"حكومة إقليم كردستان" بأي ثمن، ويرى الفريقان أن وحدة الأراضي العراقية تعتبر ركنا أساسياً لاستقرار المنطقة، لاسيما في مثل هذا الوقت الذي يشهد العديد من الأزمات والتوترات المتعلقة بسوريا وإيران. كما ترغب الحكومتان أيضاً في رؤية تدفق المزيد من النفط العراقي إلى شمال البلاد بعيداً عن الساحل الإيراني في الخليج الفارسي وتجاه مرافئ التصدير الضخمة على السواحل التركية المطلة على البحر المتوسط. وهما يعتقدان أن هذا التدفق ربما يساعد في الحفاظ على انخفاض أسعار النفط فضلاً عن تسهيل نجاعة العقوبات المفروضة على إيران -- وهي وجهة النظر التي دعمتها توقعات "وكالة الطاقة الدولية" بأن العراق قد يكون قادراً على توفير 45 في المائة من إنتاج النفط العالمي الجديد هذا العقد. وبالمثل، فإن الجهود المبذولة لنقل المزيد من الغاز الطبيعي العراقي شمالاً قد تسهم في مشاريع خطوط أنابيب "الممر الجنوبي" التي من شأنها أن تخفض من الاعتماد التركي والأوروبي على الغاز الروسي والإيراني. وتتفق واشنطن وأنقرة حتى على المستوى الرسمي على الآلية التي يفضلها الجانبان لتصدير النفط والغاز العراقي: وهي بالتحديد أن تضطلع "المؤسسة العامة لتسويق النفط" في بغداد بمسؤولية المبيعات مع استرداد التكاليف وتوجيه العائدات إلى "حكومة إقليم كردستان" عبر الخزانة الاتحادية.
ولكن ما هي الأشياء التي لا تزال محل جدل وخلاف؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة وتركيا التوفيق بين سياساتهما لتحقيق أهدافهما المشتركة؟
نقاط الخلاف
في عامي 2009 و 2010، أسفرت محاولة المالكي للفوز بفترة ولاية ثانية عن حدوث تباعد بين السياسة الأمريكية والتركية. فقد عارضت أنقرة علنياً إعادة تعيينه مما أدى إلى إفساد علاقتها معه من اليوم الأول من ولايته الجديدة، في الوقت الذي تبنت فيه واشنطن منهجاً أكثر سلبية واستمرت في التعاون معه بينيما بدأت القوات الأمريكية بالانسحاب من العراق. ومنذ ذلك الحين أصبح موقف أنقرة أكثر قتامة مما أدى إلى نشوب حرب كلامية شديدة بين المالكي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2011. وترى تركيا أن واشنطن فشلت في استخدام نفوذها الذي لا يزال قوياً (وعلى وجه الخصوص، مبيعات الأسلحة) لكبح جماح استيلاء المالكي على السلطة وإزكاء التوترات الطائفية. وترى واشنطن أن عداء أنقرة للمالكي غير ضروري ولن يأتي بنتائج إيجابية. إلا أن هناك المزيد من الموضوعية في الانتقادات الموجهة من جانب الفريقين لبعضهما البعض.
ويتلخص الحل التركي للأزمة السياسية العراقية المستمرة في إقامة دولة اتحادية قوية تقوم على تفسير الدستور على نحو يصب في صالح "حكومة إقليم كردستان" وغيرها من الأقاليم ويعطيها الأفضلية على الحكومة المركزية. وبعد تيقنها في عام 2010 من أن المالكي ما هو إلا دمية في يد إيران، أجرت أنقرة اتصالات موسعة ومباشرة مع أربيل، وعلى الأخص عندما زار وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو "إقليم كردستان" ومدينة كركوك الحساسة في أيار/مايو 2012 دون إبلاغ بغداد.
وقد وسَّعت تركيا أيضاً تعاونها مع أربيل في مجال الطاقة منذ عام 2012، وقد شمل ذلك إبرام صفقات تبادل للنفط الخام الذي تنتجه "حكومة إقليم كردستان" بمنتجات تركية مكررة مثل زيت التدفئة. ومن المرجح أن تشمل خطوة أنقرة التالية مشاركة مباشرة في قطاع النفط والغاز الفائض لـ "حكومة إقليم كردستان" بالإضافة إلى قيام شركة نفط تركية تابعة للدولة بضخ استثمارات في مناطق الامتيازات داخل "إقليم كردستان" العراقي -- وهي خطوة سبق وأن اتخذت من قبل شركتي "إكسون موبيل" و"شيفرون"، بالإضافة إلى حوالي خمسين شركة أخرى في العقد الماضي.
ونظراً لاعتراض بغداد على هذه الصفقات ووصفها لها بأنها غير قانونية قد تتسبب في نشوب نزاع مسلح ضد "حكومة إقليم كردستان"، فقد أعربت واشنطن عن قلقها بشأن تجاوز تركيا للحكومة المركزية. وحتى الآن، رفضت أنقرة هذه المخاوف مستندة إلى قراءتها للدستور العراقي ووجود العديد من شركات النفط الأمريكية في "حكومة إقليم كردستان". ويتلخص الموقف الأمريكي في أن تصدير النفط العراقي بدون موافقة بغداد هو في الواقع أمر غير قانوني؛ وأحد الاسباب، إنه ينتهك قرار مجلس الأمن رقم 986. وتخشى واشنطن أيضاً من أن تُفضي صفقات المقايضة والاستثمار التركي في "حكومة إقليم كردستان" إلى مواقف تركية أكثر تطرفاً في المستقبل ويدفع الوضع رويداً رويداً إلى استقلال كردي وإلى حالة من الأزمات الدائمة بين بغداد وأربيل.
وعلى وجه التحديد تركزت المخاوف التركية على مقترحات بإنشاء خط أنابيب رئيسي بين تركيا و"حكومة إقليم كردستان" من شأنه أن يلتف على مفهوم العراق الاتحادي فضلاً عن القرارات المتعلقة بالسماح بتصدير كميات كبيرة من النفط من الأراضي التابعة لـ "حكومة إقليم كردستان" بصورة مستقلة عن بغداد، مع تحويل بعض الإيرادات الناتجة على الأقل مباشرة إلى أربيل. فإذا زادت هذه الصادرات عن عدة مئات من آلاف البراميل يومياً -- وذلك لن يكون صعباً من الناحية الفنية -- فسيكون لدى "حكومة إقليم كردستان" الإمكانات المالية اللازمة التي تجعلها تقطع علاقاتها مع بغداد.
غير أن واشنطن قد تبالغ في النوايا التركية. فعندما يتعلق الأمر بصادرات النفط يبدو أن أنقرة ملتزمة بتحقيق سيناريو "يكسب فيه الجميع"، أي تركيا وبغداد و"حكومة إقليم كردستان". ويرى العديد من المسؤولين الأتراك أن صفقات المقايضة المنظمة جيداً والصغيرة الحجم والاستثمار في قطاع النفط التابع لـ "حكومة إقليم كردستان" يقع دون الحد الذي يمكن أن يتسبب في نشوب حرب في شمال العراق أو يعمل على تقسيم البلاد. وفي سياق متصل لا تزال أنقرة تتخوف بصورة واضحة من تجاوز الخطوط الحمراء الحقيقية لبغداد ألا وهي: إنشاء خطوط أنابيب بين تركيا و"حكومة إقليم كردستان" وتصدير كميات كبيرة من النفط من أراضي "الإقليم" بدون موافقة الحكومة الاتحادية. إن تجاوز أي من هذين الخطين يمكن أن يتسبب في نشوب أزمة عميقة مع واشنطن وكذلك مع بغداد. وترى واشنطن أيضاً أن توقيع اتفاقيات في هذا الصدد يعتبر أمراً غير ذي جدوى.
التبعات على السياسة الأمريكية
تعلم أنقرة وواشنطن أن كليهما ينتقد سياسات الآخر تجاه العراق. وعلى وجه الخصوص، كان بمقدور الولايات المتحدة فعل المزيد لكبح جماح المالكي على مدار السنوات القليلة الماضية، كما اتضح من نجاحها في تعبئة النفوذ الدبلوماسي لمنعه من استخدام القوة ضد منافسه السياسي رافع العيساوي في كانون الأول/ ديسمبر 2012. ومن خلال الاعتماد على التشجيع من هذا النجاح، ينبغي على واشنطن فعل المزيد لدعوة المالكي على عدم المواظبة في خطواته السلطوية المستمرة (على سبيل المثال، قيامه في وقت سابق من هذا الشهر بإقالة رؤساء "هيئة المساءلة والعدالة"). كما ينبغي عليها التراجع قليلاً فيما يتعلق بمسألة الاستثمار التركي في الامتيازات النفطية الكردية مع تمييز الأوقات التي تهدد فيها بغداد باتخاذ خطوات تصعيدية لإظهار نفوذها مثلما فعلت منذ دخول شركة "إكسون موبيل" السوق في "حكومة إقليم كردستان" قبل ستة عشر شهراً مضت.
وفي مقابل تقديم تنازلات حول هذه القضايا، من المرجح أن تجد واشنطن شريكاً هادئاً وشاكراً في تركيا، ويمكنها حينذاك استخدام هذه النوايا الحسنة لتحقيق العديد من الأهداف. أولاً، يمكنها أن تعزز من التردد المبرر من جانب أنقرة بشأن تنفيذ اتفاقيات خطوط أنابيب مباشرة مع "حكومة إقليم كردستان" في هذه المرحلة الحاسمة. ثانياً، يمكنها تشجيع الجهود التركية المتجددة لمساعدة الفصائل العراقية، التي تشمل الأكراد أيضاً، في مسعاها البرلماني لاستصدار تشريع اتحادي خاص بتقاسم النفط والإيرادات. ويعتبر تمرير قانون محدد المدة عبر أغلبية من المعارضة في 26 كانون الثاني/يناير -- والجهود اللاحقة للحيلولة دون رفض هذا القانون من قبل "المحكمة العليا" -- من البوادر المشجعة على أن الوعي البرلماني في العراق يشهد حراكاً ويمكن تقويته وتعزيزه. كما أن إحياء النقاش حول تشريع جديد لتقاسم النفط والغاز، والإيرادات أيضاً يمكن أن يساعد على التقريب بين الفصائل للوصول إلى اتفاق جذري بشأن قضايا الطاقة وتحقيق قدر أكبر من اللامركزية المالية. وباختصار، إذا دققت كل من واشنطن وتركيا في التفاصيل، فسوف يدركان أن مواقفهما ليست متباعدة كما تبدو.
 
تونس: العنف والتحدي السلفي
مجموعة الأزمات الدولية
Middle East and North Africa Report N°137 13 فبراير 2013
الملخص التنفيذي والتوصيات
 لقد رمى اغتيال شكري بلعيد، المعارض البارز، تونس في أسوأ أزمة لها منذ الإطاحة بالرئيس بن علي في كانون الثاني/يناير 2011. رغم أنه لم يتم العثور على الجناة، فإن الشكوك اتجهت بسرعة إلى أشخاص على علاقة بالحركات السلفية. سواء كان لهذه الشكوك أساس أم لا، فإن الاعتقاد بذلك دفع هذه القضية إلى الواجهة. يرى كثير من غير الإسلاميين أدلة كثيرة على المخاطر التي يشكلها السلفيون؛ والأسوأ من ذلك فإنهم يشكّون بأنه رغم الاختلافات الظاهرية، فإن السلفيين والنهضة، الحزب الإسلامي الحاكم، يتشاطرون مخططات متشابهة. في وقت يزداد فيه الاستقطاب في البلاد وتصبح الأوضاع مضطربة على نحو متزايد في المغرب العربي، ينبغي أن تقدم تونس أجوبة اجتماعية، وأيديولوجية وسياسية مختلفة على ثلاث مشاكل محددة تتمثل في تهميش المواطنين الشباب الذين تعتبر السلفية، وأحياناً العنف، بالنسبة لهم مخرجاً سهلاً؛ والغموض الذي يحيط بوجهات نظر النهضة والهوية الدينية للبلاد؛ والتهديد الجهادي الذي لا ينبغي تجاهله ولا المبالغة به.
كما في أجزاء أخرى من المنطقة، فإن الظاهرة السلفية تتنامى باستمرار ـ سواء بما يسمى مكونها العلمي، وهو نموذج هادئ للنزعة الإسلامية الذي يدعو إلى الانغماس في النصوص المقدسة، أو في مكوّنها الجهادي، الذي يدعو عادة إلى المقاومة المسلحة ضد القوى غير المتدينة. كانت السلفية قد حققت اختراقات في ظل حكم بن علي السلطوي، كرد على القمع الذي مورس بحق الإسلاميين بشكل عام والنهضة بشكل خاص. ثمة جيل جديد من الإسلاميين الشباب، الذين لا يعرفون النهضة نسبياً، افتُتن بالقصص عن المقاومة الشيشانية، والعراقية والأفغانية.
كل ذلك غيّرته انتفاضة 2010-2011. السلفيون العلميون، الذي كانوا حذرين وموالين في ظل حكم بن علي، بدؤوا بالترويج بنشاط لأفكارهم العقائدية والضغط في نفس الوقت على النهضة، خصوصاً فيما يتعلق بدور الشريعة في الدستور الجديد. الجهاديون من جهتهم يدعمون الصراع خارج تونس، ويقومون حتى بتجنيد المقاتلين من أجل هذه القضية، خصوصاً في سورية. إلا أنهم يزعمون بأنهم تخلوا عن العنف في بلادهم. يؤكدون بأن تونس لم تعد أرض جهاد. إنها أرض الدعوة التي ينبغي للجهاديين أن يمكّنوا أنفسهم فيها سلمياً، والاستفادة من انعدام النظام العام ونشوء مناطق ينعدم فيها القانون من أجل الدفع بتطبيق الشريعة الإسلامية. نتيجة لذلك، فإن غير الإسلاميين باتوا أكثر قلقاً، والكثير منهم يتهم النهضة بالتواطؤ مع السلفيين ومشاطرتهم أهدافهم النهائية.
في الوقت الراهن، ورغم الإطاحة بالنظام السابق، والفراغ الأمني، والمشاكل الاقتصادية، والإضرابات ومختلف الحركات الاحتجاجية، إضافة إلى إطلاق سراح وعودة عدد كبير من اللاجئين من المنفى، فإن تونس لم تعانِ لا من الصراع المسلح، ولا من انتشار العنف على نطاق واسع ولا من الهجمات الإرهابية. معظم حالات العنف السلفي ـ وكان أبرز الأمثلة عليه الهجوم على السفارة الأمريكية في 14 أيلول/سبتمبر 2012 ـ كانت دراماتيكية أكثر منها مميتة. لعبت حركة النهضة دوراً ليس بالقليل في المساعدة في تحاشي الأسوأ بفضل إدارتها الحذرة للجماعات الدينية الراديكالية من خلال مزيج من الحوار، والإقناع والاستمالة والاحتواء.
إلا أن لمثل هذه الإدارة حدوداً. تجد النهضة نفسها في وضع غير مريح على نحو متزايد، حيث هي عالقة بين غير الإسلاميين الذين يتهمونها بالتساهل والتراخي المفرط في التعامل مع التهديد الأمني والسلفيين الذين يدينونها كلما تبنت موقفاً أكثر تشدداً. وفقاً للظروف ـ اندلاع العنف أو موجات الاعتقال ـ فإن الحركة تتعرض للإدانة إما من قبل الفريق الأول أو من قبل الفريق الثاني. النهضة نفسها منقسمة: بين الدعاة المتدينين والسياسيين البراغماتيين وكذلك بين المواقف الأكثر مرونة لقيادتها والمعتقدات الأساسية لقاعدتها المتشددة. سياسياً، فإن مثل هذه التوترات تفضي إلى مأزق حاد؛ فكلما أبرزت الحركة هويتها الدينية، كلما أقلقت غير الإسلاميين؛ وكلما تبنت خطاً براغماتياً، كلما نفّرت قواعدها وأفسحت المجال للسلفيين.
ما من شك في أن المعارضة غير الإسلامية أظهرت رعباً مفرطاً وسابقاً لأوانه وأنها تواجه في بعض الأحيان اتهامات لا أساس لها. كما أنه ما من شك أيضاً في أنها تجد صعوبة في قبول واقع حكم الإسلاميين للبلاد. إلاّ أن حقيقة أن هذه المخاوف مُبالغ بها لا يعني أنه لا أساس لها؛ بل يعني أن على المرء أن يحددها ويميز بينها بوضوح، وأن يقدم علاجات مصاغة بعناية. إن الخلط بين الحوادث المرتبطة بالفقر والبطالة، ومحاولة فرض نظام أخلاقي صارم، والاغتيالات السياسية والعنف الجهادي سيؤدي فقط إلى دفع السلفيين نحو أجنحتهم الأكثر راديكالية.
تتمثل النزعة الأولى في الوجود المتنامي للسلفيين المتشددين في الأحياء الفقيرة. لقد تقدموا لملء الفراغ الذي تركته الخدمات العامة المتراجعة في المناطق المهمشة؛ وفي بعض الأماكن، أصبحوا لاعبين اقتصاديين رئيسيين. يعرف عنهم المساعدة في التعليم والتوسط في الصراعات المحلية، وفي القضايا الإدارية وحتى في المشاكل الزوجية. في العديد من القرى الفقيرة والمراكز الحضرية، ينخرطون بعمق في الاقتصاد غير المنظم.
النزعة الثانية تتعلق بانتشار شكل أكثر دوغمائية من التعابير الدينية، ما يشير إلى شد حبل بين مفهومين للإسلام، واحد متسامح والآخر أقل تسامحاً. العنف الذي تمارسه المجموعات التي أعطت لنفسها دوراً شُرَطياً، والذي كان ظاهرة ثانوية في البداية، أصبح أكثر شيوعاً؛ وقد بات بعض المواطنين أكثر إحجاما عن القيام بعملهم بشكل علني، خشية إثارة غضب السلفيين. كما يتضح نفوذ السلفيين من خلال سيطرتهم على أماكن العبادة والتعلّم. تراهن النهضة على أن هذه النزعة الراديكالية في الخطاب الديني ظاهرة مؤقتة، وبوصفها تنفيساً لا بد منه عن الاحباطات المكبوتة بعد سنوات من القمع. إنها واثقة من أن إدماج السلفيين في النظام السياسي سيجعلهم أكثر اعتدالا. غير أن العديد من منتقدي الحركة يعتبرون ذلك مقامرة تنطوي على مخاطرة وستسرّع في أسلمة المجتمع بشكل تدريجي من القواعد إلى القمة.
النزعة الثالثة تتعلق بوجود المجموعات المسلحة. لم تقم هذه المجموعات بعمليات كبيرة بعد. صحيح أن العديد من الجهاديين التونسيين يغادرون إلى سورية، أو مالي أو الجزائر، حيث شكّلوا نسبة كبيرة من محتجزي الرهائن في محطة غاز عين أميناس. إلا أن معظم الجهاديين يبدون مستعدين للتركيز على الدعوة في تونس، وعلى الأقل في الوقت الراهن، ليسوا مستعدين للانخراط في عنف أكثر خطورة على أرضها.
رغم ذلك فإن هذا يمكن أن يصبح أسوأ. يمكن لانعدام الاستقرار في بلدان المغرب العربي، والحدود المخترقة مع ليبيا والجزائر، إضافة إلى عودة الجهاديين في النهاية من الخارج، أن يتسبب في المشاكل. لقد ترتب على الحكومة أصلاً أن تتشدد في موقفها بالنظر إلى ازدياد عدد حوادث العنف؛ والخطاب الأكثر تشدداً للجهاديين حيال النهضة؛ والضغوط المتنامية من شرائح من الرأي العام؛ وعناصر داخل وزارة الداخلية، و من الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الهجوم على سفارتها. نتيجة لذلك، فإن العلاقات بين السلفيين الجهاديين وأتباع النهضة تدهورت. يمكن أن يؤدي ذلك إلى حلقة مفرغة بين تصاعد حدة القمع ونزوع السلفيين نحو قدر مزيد من الراديكالية.
تواجه الحكومة وحركة النهضة تحديات كبيرة، باتت أكثر إلحاحا باغتيال شكري بلعيد. تتمثل المهمة الأكثر إلحاحاً في حل الأزمة السياسية الحالية. بعد ذلك، سيتمثل التحدي في تصميم استجابات لهذه المشاكل المحددة وفي نفس الوقت تجنب مقاربة نمطية بوصم مواطنيها الأكثر تديناً؛ وتقديم درجة أكبر من الانسجام والتماسك في فضاء ديني متنوع وتطمين العلمانيين؛ وتعزيز القانون والنظام دون تبني أجندة أمنية بحتة وأيضاً إصلاح جهازي الشرطة والقضاء؛ وأخيراً، تعزيز التعاون مع البلدان المجاورة في سياق متوتر وتطغى عليه الفوضى.
في غياب رد مناسب من قبل السلطات والحزب الإسلامي المهيمن، فإن العنف بجميع أشكاله ـ سواء كان مرتبطاً بأسباب اجتماعية، أو ديموغرافية، أو حضرية، أو سياسية أو دينية ـ يمكن أن يتجاوز عتبة خطرة.
التوصيات
من أجل معالجة الأزمة الراهنة
إلى رئيس الوزراء، والرئاسة، والجمعية الوطنية التأسيسية، والنهضة، وكذلك إلى المجموعات الإسلامية وغير الإسلامية ومجموعات المجتمع المدني والاتحاد العام التونسي للشغل:
1. تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في اغتيال شكري بلعيد.
2. تأسيس مجلس وطني للحوار يتكون من المنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني الرئيسية إضافة إلى نقابات العمال للموافقة على خارطة طريق واضحة للمراحل الآتية من العملية الانتقالية.
من أجل معالجة الأسباب الاجتماعية للعنف
إلى الحكومة، والجمعية الوطنية التأسيسية والجمعيات الإسلامية والعلمانية:
3. تنفيذ سياسات فورية لتوفير الدعم الاجتماعي والاقتصادي للشباب في الأحياء الفقيرة والمناطق المهمشة، والتركيز على الفرص التعليمية والمهنية.
4. دعم عمل جمعيات المجتمع المدني في المناطق المهمشة وتشجيع التعاون بين المنظمات الإسلامية والعلمانية.
إلى وزارة الشؤون الدينية، واللجنة العلمية للجامع الكبير في تونس وإلى المنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء:
5. إصدار ميثاق، بعد مشاورات موسعة، لتوجيه التعليم الديني في الجامع الكبير يشجع فهما للإسلام يستند إلى الحركة الإصلاحية التونسية ويتكيف مع التحديات المعاصرة.
إلى حركة النهضة:
6. تشجيع هذا المفهوم للإسلام في منشوراتها وتشجيع الجمعيات ذات العلاقات الوثيقة بالحركة على نشره في أوساط قواعدها.
من أجل تعزيز الأمن
إلى الحكومة والجمعية الوطنية التأسيسية:
7. تقليص مشاعر انعدام الأمن وتطمين قوات الأمن بتبني قانون جديد يحدد بوضوح وضعها القانوني، وحقوقها ومسؤولياتها.
إلى وزاراتي العدل والداخلية:
8. تنفيذ برامج مصممة لتقديم تدريب موحّد على فرض القانون.
9. توفير معدات حديثة، وغير مميتة لضبط الحشود للشرطة والحرس الوطني.
10. وضع قائمة للمناطق الأكثر عرضة لمخاطر العنف والتي تتطلب وجود شرطة الأحياء.
إلى شركاء تونس الدوليين، خصوصاً فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا والولايات المتحدة:
11. دعم إصلاحات وزارة الداخلية من خلال:
    أ‌. وضع برامج تبادل وتدريب لعناصر فرض القانون؛
    ب‌. تقديم الدعم المالي لتحديث وتحسين معدات ضبط الحشود غير المميتة.
إلى الحكومات التونسية، والليبية والجزائرية:
12. ضمان قدر أكبر من التعاون الأمني وتحسين التنسيق الاستخباراتي في المناطق الحدودية.
 تونس/بروكسل، 13 شباط/فبراير 2013

 

 

الأزمة السِّياسيّة في تونس

 مركز الدوحة للدراسات      
مقدمة
صبيحة ٦ شباط / فبراير، وقع اغتيال المعارض اليساري الرّاديكالي البارز والحقوقي شكري بلعيد أمام منزله، بثلاث رصاصاتٍ قاتلةٍ في الرّأس. وقد اتّسمت العمليّة نسبيًّا بالاحترافيّة، وإن كانت المؤشِّرات تحيل على ثقةٍ محيِّرةٍ لدى القتَلة عند قيامهم بالعمليّة؛ إذ تعمّدوا البقاء بوجوهٍ عاريةٍ بحسب بعض الشّهود. ولقد جعل سياق التّأزّم والاحتقان الذي جرى فيه الاغتيال، أيَّ نقاشٍ هادئٍ حول هويّة القاتل أمرًا مستحيلًا. فمنذ البداية، وقع تبادل التّهم والردّ عليها سياسيًّا، بعيدًا عن سير التّحقيق. وعلى هذا الأساس، حُدِّد الاتِّهام على أساسٍ سياسيٍّ؛ فإمّا أن يكون القاتل من السّلطة بالضّرورة بما أنّ الفقيد معارضٌ بارزٌ، وإمّا أن يكون من المعارضة التي تستهدف تقويض المسار الدّيمقراطي، لأنّه "ليس من مصلحة" السّلطة أن تكون القاتل. وهذه كلّها تهَمٌ سياسيّةٌ، لا علاقة لها بالقانون.
 جعل هذا الوضعُ عملَ وزارة الدّاخليّة متأثِّرًا بالغ التّأثّر بالوضع السِّياسي، ومنَحَ انتقادات المعارضة المتعلِّقة بـ "تحييد" تلك الوزارة جاذبيّةً كبيرةً، بصرف النّظر عن مدى وجاهة ما تقوم به. ونحن بذلك بإزاء حالةٍ يصعب فيها التّوافق على المشتَرَك الأدنى، ويصبح فيها التّصعيد التّطوّرَ الطّبيعيَّ. وليس السّؤال الأهمّ الآن: من هو القاتل، وإنّما من هو القتيل القادم؟ وعلى رأس الأمثلة المقارَنة التي تُستَحضر الآن في كواليس الأوساط السِّياسيّة في تونس، نذكر اغتيال رفيق الحريري. وبالنّظر إلى ذلك، تصبح مسألة "التّحقيق" في الجريمة مسألةً هامشيّةً ومستحيلةً تقريبًا، قياسًا بالوظيفة السِّياسيّة للاغتيال نفسه.
أزمة "الترويكا"
كان اغتيال بلعيد، النّقطة التي أفاضت كأس الأزمة السياسيّة. فقد كان الائتلاف الثّلاثيّ الحاكم ("حزب حركة النّهضة"، و"حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة"، و"حزب التكتّل من أجل العمل والحريّات") المعروف باسم "التّرويكا"، يعيش أشهر أزمةٍ داخليّةٍ مكتومةٍ. وكان هناك وعيٌ متزايدٌ بفقدان شعبيّة الحكومة، وباهتراء قواعد الأحزاب الثّلاثة وحزامها الانتخابي. لا يعود ذلك إلى التّأثير السّلبي لكلّ من هو في موقع الحكم، وإلى اختبار السّلطة في مثل هذه المرحلة الصّعبة فحسب، بل يعود كذلك إلى عددٍ من العوامل الخاصّة بالوضع التّونسي. فلقد جرت الانتخابات ضمن سقفٍ عالٍ من التوقّعات والانتظارات؛ إذ كان عديد التونسيّين ينتظرون إنجاز استحقاقات الثّورة، مثل: مقاومة الفاسدين، ومحاسبة منتهكي حقوق الإنسان، وتنمية الجهات الأكثر فقرًا، تلك التي انطلقت منها الثّورة. ولكنّ الحكومة اختارت عدم مواجهة النِّظام القديم. وفي مقابل ذلك، كان التّفويض المؤقَّت والانتقالي الممنوح لأحزاب الأغلبيّة، يدفع في اتِّجاه نسقٍ بطيءٍ من التّغيير. وبمعنًى آخر، اصطدمت الانتظارات الشّعبيّة لإصلاحاتٍ هيكليّةٍ فوريّةٍ بأدواتٍ سياسيّةٍ تفرض إصلاحاتٍ طفيفةً. وما زاد الوضع تعقيدًا، أنّ الائتلاف الحاكم كان متردِّدًا، ولم يتصرّف كحكومةٍ ذات برنامجٍ سياسيٍّ ثوريٍّ في مرحلةٍ انتقاليّةٍ، بل كحكومةِ تسيير أعمالٍ. ذلك أنّه لم يحقِّق حتّى البعض من الإصلاحات الممكنة في السِّياق الانتقالي الرّاهن. وكانت "التّرويكا" ائتلاف الضّرورة، وليست ائتلافًا مبنيًّا على برنامجٍ وخطّةِ عملٍ واضحةٍ. وتبيّن مع الوقت أنّ ذلك هو عطبها الرّئيسيّ. ولم تستفد المعارضة من صداميّة الحكومة مع إرث النِّظام القديم، بل استفادت من براغماتيّتها ومن نزعة التّسوية لديها بالخصوص.
كانت ضرورة إدخال تغييرٍ على الأداء الحكوميّ أمرًا بديهيًّا في ظلّ مراجعة مبادئ كلّ المسار الانتقاليّ، ولا سيّما بإزاء تكرّر المحاولات الصِّداميّة للمعارضة مع السّلطة القائمة، إلى حدّ الدّفع نحو نزع الشّرعيّة عن المؤسّسة المنتَخَبة الوحيدة منذ الثّورة، وهي المجلس الوطني التّأسيسي. وقد اتّجهت المفاوضات داخل "التّرويكا" نحو مسارين:
 المسار الأوّل: يتعلّق بوضع خريطة طريقٍ، في إطار وثيقةٍ مشتَرَكةٍ تحدِّد خطّة عمل الحكومة في ما تبقّى من الفترة الانتقاليّة، وكذلك القيام بـ "حوارٍ وطنيٍّ" يجمع مختلف الفرقاء في توضيح الطّريق المؤدّي إلى الانتخابات القادمة.
 المسار الثّاني، كان الأكثر تعقيدًا، ويتعلّق بالتّغيير الوزاري؛ إذ واجه حزب الأغلبيّة مطالب من شريكيْه بتغيير عددٍ من وزارات السِّيادة التي في عهدته، وحتّى بتحييدها. وفي الوقت الذي كان هناك توجّهٌ نحو توسيع الائتلاف الحاكم، تبيّن تدريجيًّا أنّ المفاوضات تتّجه نحو عجزٍ في التوصّل إلى توافقٍ بين الأطراف الثّلاثة، ومن ثمّة احتمال انفراط عقد التّحالف بينها، خاصّةً بعد تهديد "حزب المؤتمر" تهديدًا رسميًّا - ولأكثر من مرّةٍ - بالانسحاب من الحكومة.
 جرى توجيه الضّربة القاضية للتّرويكا، بعد اغتيال شكري بلعيد مباشرةً؛ عندما قرّر رئيس الحكومة وأمين عامّ حزب "حركة النّهضة" تشكيل "حكومة كفاءاتٍ" مستقلّةٍ عن الأحزاب، بداعي فشل أحزاب الثّلاثي الحاكم في التوصّل إلى توافقٍ. وتكمن المعضلة الأكبر، في أنّ قرار رئيس الحكومة، كان متباينًا مع موقف حركته التي تصرّ على تشكيل حكومة ائتلافٍ سياسيٍّ.
أهوَ الانقلاب على الشّرعية؟
إثر اغتيال شكري بلعيد مباشرةً، اتّهمت وجوهٌ معارضةٌ عديدةٌ - وبكلّ بساطةٍ - "حركةَ النّهضة" بـ "المسؤوليّة السِّياسية"، أو بـ "المسؤوليّة المباشرة" عن الجريمة. وبسرعةٍ، وفي ظرف ثلاثة أيّامٍ امتدّت من صبيحة الاغتيال إلى يوم تشييع الجنازة، حصل تصعيدٌ كبيرٌ في مواقف المعارضة، التي تراوحت بين ضرورة إسقاط الحكومة وحلّ المجلس التّأسيسي. ولقد تميّزت الجنازة الضّخمة بشعاراتٍ معاديةٍ لـ "حركة النّهضة"، تنادي بـ "إسقاط النِّظام".
وبرز حزب "حركة نداء تونس" في المشهد المعارض؛ ذاك الذي يقوده رئيس الحكومة المؤقَّت قبل الانتخابات الباجي قائد السِّبسي (وهو من رجالات بورقيبة المقرَّبين، ووزير داخليّةٍ سابقٍ، عُرفت وزارته بممارسات قمعيّة، كما عُرف بقربه من الدّوائر الغربيّة خارجيًّا)، منافسًا أساسيًّا لحركة النّهضة بحسب عددٍ من استطلاعات الرّأي ومن الاجتماعات الشّعبيّة التي يعقدها من حينٍ إلى آخر. وهذا الحزب هو توليفةٌ غير متجانسةٍ من رموز محسوبةٍ على النِّظام القديم، مع أطراف تُنسب إلى اليسار، دون أن يكون للحزب برنامجٌ معلَنٌ وواضحٌ. ولقد تميّز "نداء تونس" - منذ تأسيسه في ربيع السّنة الفارطة - بخطابٍ معادٍ للإسلاميّين، ومدافعٍ عن "النّموذج الحداثي التّونسي البورقيبي". واعتمد في ذلك خطابًا سياسيًّا يدفع نحو تحديد زمن عمل المجلس التّأسيسي في عامٍ واحدٍ، ورفض المسار القائم على حكومةٍ سياسيّةٍ في الفترة الانتقاليّة. وهكذا خاض حملةً سياسيّةً قبل ٢٣ تشرين الأوّل / أكتوبر الماضي (الذِّكرى الأولى للانتخابات)؛ من أجل إنهاء "الشّرعيّة الانتخابيّة"، والبدء في "شرعيّةٍ توافقيّةٍ"، وهو ما يعني عمليًّا إنهاء دور المجلس التّأسيسي. إنّ اغتيال بلعيد كان مناسبةً للحديث بشكلٍ صريحٍ في هذا الاتِّجاه، من خلال تصريحات قائد السِّبسي الذي دعا إلى حلّ المجلس التّأسيسي وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ مبنيّةٍ على "التّوافق"[1].
قبل أيّامٍ قليلةٍ من الاغتيال، شكّلت الأحزاب الممثِّلة لكتلة المعارضة داخل المجلس الوطني التّأسيسي من حزبي "الجمهوري" و"المسار" جبهةً سياسيّةً وانتخابيّةً مع "نداء تونس". لكنّ مواقفها لم تكن متجانسةً بعد ذلك؛ إذ دافعت عن موقف "تعليق" عضويّة ممثّليها في المجلس التأسيسي، وليس عن حلِّه. في مقابل ذلك، كان موقف "الجبهة الشعبيّة" (وهي تحالفُ أطرافٍ يساريّةٍ راديكاليّةٍ، كان من بين قيادييها شكري بلعيد) حاسمًا في اتِّجاه الدّفع بمسارٍ موازٍ للمؤسّسة الشّرعية القائمة؛ إذ دعا إلى "مؤتمر إنقاذٍ وطنيٍّ" تنبثق عنه "حكومة أزمةٍ". ولعلّ من بين أهمّ تداعيات الاغتيال، تذليل الفوارق بين "نداء تونس" و"الجبهة الشعبيّة" التي كانت تقدِّم نفسها على أنّها "طريقٌ ثالثٌ" يضاف إلى طريقيْن ("الترويكا" من جهةٍ، و"نداء تونس" من جهة ثانيةٍ)، وتؤكِّد على أنّها على قطيعةٍ مع رموز النِّظام القديم الذين يتألّف منهم "نداء تونس". ولقد نُظِّمت اجتماعاتٌ تنسيقيّةٌ بين الطّرفين لأوّل مرّةٍ، وجرى تقاربٌ في الموقف السِّياسيّ العامّ؛ وهو البحث عن مسارٍ موازٍ للشّرعيّة.
إنّ تسلسل الأحداث السّريع، ودفع المعارضة به نحو التّصعيد، والمناداة بمراجعة المسار برمّته، قد جعل البعض يتحدّث عن "محاولةٍ انقلابيّةٍ على الشّرعيّة"، خاصّةً من أوساط السّلطة. ولقد قرّر الجيش - ممثَّلًا في وزير الدِّفاع "التّكنوقراط"، والمقرَّب من قيادته - بعث مؤشِّراتٍ سلبيّةٍ في هذا الاتِّجاه، عندما قام على غير عادته باتِّصالٍ هاتفيٍّ على إحدى القنوات التلفزيونيّة، ينتقد فيها أيّ إشارةٍ إلى "تسخير" رئيس الجمهوريّة للقوّات المسلَّحة لحماية الجنازة، قائلًا إنّ الجيش لا يخضع إلى أيّ حزبٍ، مشكِّكًا ضمنيًّا في موقع رئيس الجمهوريّة المؤقَّت المنصف المرزوقي، ومؤسِّس "حزب المؤتمر" أحد أحزاب "التّرويكا"، بوصفه قائدًا أعلى للقوّات المسلّحة.
صبّت بعض المواقف في الخارج الزّيتَ على النّار، وتحديدًا تلك الآتية من فرنسا. فلقد عبّر وزير الدّاخليّة الفرنسي إيمانوال فالس - في حوارٍ له على إحدى الإذاعات الفرنسيّة الأكثر انتشارًا - عن موقفٍ حادٍّ نوعًا ما؛ يرى فيه ضرورة دعم فرنسا "للدّيمقراطيّين" في تونس، وتضمّن نقدًا قويًّا لما عدّه "فاشيّةً إسلاميّةً صاعدةً". وتدخّل الباجي قائد السِّبسي على أمواج الإذاعة نفسها، فقدّم حزبه بوصفه ممثِّلًا لـ "الدّيمقراطيّين". وهو ما يمكن تأويله على أنّ رموز النِّظام القديم - حلفاءَ فرنسا التّقليديين- الذين يضمّهم هذا الحزب، هم الذين يحتكرون الدّيمقراطيّة دون غيرهم. ولقد نظرت أوساط السّلطة إلى هذه الواقعة كدليلٍ على تحالفٍ بين باريس والمعارضة، خاصّةً بعد تصريحاتٍ لإحدى ممثِّلات "الجبهة الشّعبية" في فرنسا على قناة "فرنسا ٢٤"، نادت فيها بتدخّلٍ فرنسيٍّ في تونس احتذاءً بالتدخّل الفرنسي في مالي. كانت ردّة الفعل الرّسمية على تصريحات وزير الدّاخليّة الفرنسي فوريّةً، تمثّلت في استدعاء السّفير الفرنسي للاحتجاج على ما عُدّ "تدخّلًا سافرًا في الشّأن التّونسي". والحقيقة، أنّ مواقف فالس - المعروف بمواقفه الحادّة في ما يخصّ الإسلاميّين - لم تكن متجانسةً مع مواقف الرّئيس الفرنسي ووزير خارجيّته، تلك التي توخّت الحذر وحرصت على اتِّخاذ مسافةٍ فاصلةٍ ممّا يحدث في تونس.
السّيناريوهات الممكنة
تُطرح في الوضع الحاليّ ثلاثة سيناريوهاتٍ ممكنة في تونس:
- حكومة "كفاءاتٍ مستقلّةٍ" أو "تكنوقراط": وهذا مقتَرَح رئيس الحكومة حمّادي الجبالي، يسانده فيه طيفٌ واسعٌ من المعارضة، وخاصّةً "نداء تونس". ويرجع موقف المعارضة المساند هذا - على الأرجح - إلى سببين: يعود أوّلهما إلى أنّ حديث رئيس الحكومة عن عدم حاجة المجلس التّأسيسي إلى تزكية حكومة "التِّكنوقراط" التي اقترحها، من شأنه أن يجعل المجلس التّأسيسي دون معنى على مستوى الصّلاحيّات التّنفيذيّة، وتَبعًا لذلك سيشكِّل ذلك حلًّا جزئيًّا له. ويعود السّبب الثّاني إلى أنّه اعترافٌ بفشل أحزاب الثّلاثي الحاكم في الحكم، وضربةٌ استباقيّةٌ كبيرةٌ لها قبل الانتخابات القادمة. هذا علاوةً على أنّ "حكومة تكنوقراط"، ستعيد في الأغلب إنتاج وجوهٍ من الحكومات السّابقة؛ إذ إنّ "التّكنوقراط" هم في معظمهم إداريّون قريبون من النِّظام القديم، ممّا يعني استعادة ذلك النِّظام نفوذه على مستوى السّلطة التّنفيذيّة. أمّا العائق الأساسي الذي يقف أمام هذا الخيار، فهو رفض "حركة النّهضة" و"حزب المؤتمر" وكتل أخرى في المجلس التّأسيسي له، ممّا يعني استحالة حصوله على التّزكية في الوقت الرّاهن. وحتّى لو تجنّب رئيس الحكومة عرض وزرائِه الجدد على التّزكية، سيتعرّض لسحب الثّقة من جانب المجلس التّأسيسي، حسبما ينصّ على ذلك "الدّستور الصّغير" المنظّم للسّلطة الحاليّة. والاحتمال الوحيد الذي سيسمح لهذا الخيار بالنّجاح، هو اختيار "حركة النّهضة" التّوافق مع مقترح أمينها العامّ ورئيس الحكومة حمّادي الجبالي، وتجنّب إقصائه من قيادة الحركة وإنهاء حياته السِّياسيّة. لكنّ كلّ المؤشِّرات الآن، تدلّ على تمسّك "حركة النّهضة" برفض حكومة "التّكنوقراط"، التي ترى فيها انتحارًا لها.
-حكومة ائتلافٍ سياسيٍّ مع كفاءاتٍ: وهي حكومة تجدِّد الائتلاف السِّياسيّ من داخل المجلس التّأسيسي، مع تطعيمها بـ "كفاءاتٍ مستقلّةٍ" في الوزارات التّقنيّة، وهو مقتَرَح "النّهضة" و"المؤتمر" وأحزابٍ أخرى داخل المجلس. ويمكن أن يتحصّل هذا المقتَرَح على أغلبيّةٍ مريحةٍ، ولكنّه قد يعني التخلّي عن حمّادي الجبالي في رئاسة الحكومة، خاصّة إذا ما تمسّك بمقترح "حكومة التّكنوقراط". وفي هذه الحالة، سيجري تعويضه بقياديٍّ آخر من "حركة النّهضة"، سيكون - على الأرجح - عبد اللّطيف المكّي وزير الصحّة الحالي، أو بدرجةٍ أقلّ محمد بن سالم وزير الفلاحة الحالي. في المقابل، سيواجه هذا الخيار صعوباتٍ في الحفاظ على "التّرويكا"، بما أنّ "حزب التكتّل" يساند حتى الآن مقتَرح "حكومة التّكنوقراط"، وربّما يقع ضمّ أحزابٍ جديدةٍ ممثّلة في المجلس التّأسيسي مثل "حركة وفاء". لكنْ، من المرجَّح أن يواجه هذا الخيار رفضًا كبيرًا من مختَلَف قوى المعارضة. ويعني ذلك تواصل حالة التّجاذب في ما تبقّى من الفترة الانتقاليّة، ولا سيّما إذا لم ينجح التّحالف الجديد في التّوافق مع القوى الموجودة خارج السّلطة حول خريطة طريقٍ مشتَرَكة نحو الانتخابات، من شأنها أن تحدِّد المواعيد الرّئيسة في الأجندة السّياسيّة؛ مثل نهاية كتابة الدّستور، وإنشاء الهيئات الدّستوريّة المصادِقة على المجلّة الانتخابيّة، وتحديد موعد الانتخابات القادمة.
-تدخّل الجيش، وحلّ المؤسّسات المنتَخَبة، وإقامة "الشّرعيّة التّوافقيّة": تبقى نسبة احتمال هذا الخيار ضعيفةً، لكنّها ممكنةٌ إن استمرّت حالة التّجاذب، أو تكرّرت حالات الاغتيال، وتصاعَدَ العنف السِّياسي، على نحوٍ يحيل إلى سيناريو قريب من السّيناريو الجزائري. ويعني هذا الخيار عمليًّا مواجهةً مفتوحةً مع "حركة النّهضة" والأطراف العلمانيّة المدافعة عن الشّرعية والأطياف الإسلاميّة المختلفة. وهو ما يؤدّي إلى احتمال الدّخول في حالة اقتتالٍ داخليٍّ، خاصّةً مع كلّ المؤشِّرات المقترِنة بانتشار تهريب السِّلاح عبر الأراضي التّونسيّة، وخزنه بغرض التّجارة أو ليكون في حوزة التيّار "السّلفي الجهادي".
 
الأردن: الانتخابات النيابيّة والإصلاح السياسيّ
 مركز الدوحة للدراسات
تشهد الساحة السياسيّة الأردنيّة منذ أكثرَ من أسبوعين مداولاتِ تشكيل حكومةٍ جديدة تنفيذًا للاستحقاق الدستوريّ الذي يقضي باستقالة الحكومة التي أشرفت على إجراء الانتخابات النيابيّة. ومن الواضح أنّ الحكومة الجديدة لن تكون جاهزةً قبل الأسبوع الثاني من شهر آذار / مارس المقبل. لم يكن تشكيل حكومة جديدة في الأردن - على الإطلاق - عمليةً تستغرق مثل هذا الوقت أو هذا الجهد في المداولات، فالأردن اعتاد على تغيير الحكومات باستمرار، ما جعل مثل هذا الحدث "إجرائيًّا" وحسب[1]. إلا أنّ المتغير الجديد هو إشراك مجلس النواب أوّل مرةٍ منذ ما يزيد عن نصف قرن في مداولات تسمية رئيس وزراءٍ جديد. ومن المتوقع أن يصبح للمجلس دورٌ مهم نسبيًّا في تحديد اسم رئيس الوزراء، ودور أكبر أهمية في اقتراح وزراء ليكونوا في قائمة الحكومة الجديدة.
يعدّ لجوء النظام السياسيّ إلى إجراء مداولاتٍ مع الكتل النيابيّة لتشكيل الحكومة جزءًا مما التزم به من إجراءاتٍ ضمن عملية الإصلاح السياسيّ في الأردن، فمنذ بداية الحراك الشعبيّ في الأردن في بداية عام 2011، ركّزت قوى الحراك الشعبيّ والقوى السياسيّة المعارضة على مطالب الإصلاح المتعلقة بإجراء تعديلات دستورية تعظّم صلاحيات مجلس النواب وتحميه من الحل، وتغيّر آليات تشكيل الحكومة لتصبح الحكومات برلمانيةً. إضافة إلى المطالبة بهذه التعديلات الدستوريّة، فقد أجمعت هذه القوى على ضرورة إصدار قانون انتخابٍ يتجاوز مبدأ الصوت الواحد[2] من ناحية، ويتضمن انتخاب نسبةٍ مهمةٍ من أعضاء مجلس النواب (تتراوح بين ثلث الأعضاء ونصفهم) بنظام القوائم الوطنيّة. في المقابل، طَوّر النظام السياسيّ - في إطار التعامل مع الحراك الشعبيّ ومطالب هذه القوى - برنامجه الإصلاحيّ الذي اتّضحت معالمه منذ نهاية صيف 2011، ويرتكز على قيادة عمليةٍ إصلاحيّةٍ ضمن رؤيته وتوجّهاته بحيث تكون أجندة هذه العمليةِ ومخرجاتها مضبوطة. ولذا، فإنّ التعديلات الدستوريّة كانت تعكس رؤية النظام السياسيّ ولم تتضمن المطالب الرئيسة لقوى الحراك وقوى المعارضة، ومثلها جاء قانون الانتخاب الجديد بعيدًا عن تطلعات هذه القوى.
إن توجّه النظام السياسيّ إلى إشراك مجلس النواب في عملية اختيار رئيس الحكومة يحقّق له مجموعةَ أهدافٍ على رأسها إثبات التزامه بتنفيذ وعوده في إطار الترويج لبرنامجه الإصلاحيّ بأنّ تشكيل الحكومات بعد الانتخابات النيابيّة سيكون بناءً على مداولاتٍ مع مجلس النواب. كما أنّ إجراء مشاوراتٍ مع البرلمان وتشكيل حكومةٍ بناءً على مقترحات النواب من شأنه أن يوحي بأنّ النظام السياسي قد التزم بتشكيل "حكوماتٍ برلمانيّة" وأنّ العملية الإصلاحيّة قد وصلت إلى مبتغاها، فيكون بذلك قد سحب البساط من تحت أقدامِ القوى السياسيّة المعارضة التي قاطعت الانتخابات وهي التي ظلت تشدّد على أنّ جوهر الإصلاح هو تشكيل "حكومات برلمانيّة". كما أنّ مشاركة البرلمان في تشكيل الحكومة يعني بالضرورة أنّ الأغلبيّة البرلمانيّة التي سوف تمنح ثقتها للحكومة سوف تتحمل مسؤولياتِ قرارات الحكومة الجديدة، خاصةً في ظل توقعِ اتخاذها إجراءاتٍ اقتصاديّة لا تلقى قبولًا شعبيًّا للحد من العجز في الميزانية. والمنطلق - كما يبدو - هو أنّ مشاركة البرلمان في تشكيل الحكومة يعني توسيع قاعدة مسؤولية إدارة البلاد ليتحمّل البرلمان حصة من تبعاتها بعدما كانت محصورةً في القصر والحكومات وأجهزتها.
مع أهمية هذا المتغير، إلّا أنّه من غير المتوقع أن يُؤدي دخول مجلس النواب في عملية تشكيل الحكومة إلى حكومة تختلف نوعيًّا عن الحكومات السابقة. وليس من المنتظر أن تكون الحكومة الجديدة حكومةً برلمانيةً كتلك الحكومات البرلمانيّة المتعارف عليها التي تشكِّلها أغلبيّةٌ نيابيّة أو ائتلافُ تكتلاتٍ نيابيّة. إن عدم قدرة المجلس على إنجاز نقلةٍ في تشكيل الحكومات مرتبطٌ بما أفرزته الانتخابات الأخيرة من نتائجَ حدّدتها العملية الانتخابيّة بصفة عامّة وقانون الانتخاب بصفة خاصة.
انتخابات نيابيّة من دون برامج سياسيّة
لم تأت الانتخابات النيابيّة الأردنيّة بمفاجآت كبرى على صعيد تشكيلة مجلس النواب الأردنيّ الجديد، ولم يكن ذلك منتظرًا منها، إذ جرت هذه الانتخابات في ظلّ مقاطعة الإخوان المسلمين، أكثر الأطر السياسيّة تنظيمًا وتأثيرًا في الشارع الأردنيّ، إضافة إلى مقاطعة الجبهة الوطنيّة للإصلاح ومعظم تجمعات الحراك الشعبيّ وكذلك بعض الأحزاب اليساريّة، احتجاجًا على قانون الانتخاب الذي اعتمد مبدأ الصوت الواحد في الدوائر الفرعيّة متعددة المقاعد، واحتجاجًا أيضًا على ضآلة نسبةِ المقاعد النيابيّة التي خُصّصت للقائمة الوطنيّة، الأمر الذي أفرغ هذه الانتخابات إلى حدٍ كبيرٍ من أيّ صراعٍ برامجيّ أو حتى تنافسٍ سياسيّ. ولم تستطع الأحزاب والتيارات السياسيّة التي آثرت المشاركة تحويل حملاتها الانتخابيّة إلى حملاتٍ ذات طبيعةٍ برامجيّةٍ أو سياسيّة، فمشاركة معظم تلك التيارات كانت مشاركةً خجولةً من حيث عدد المرشحين، بل إن فوز جميع مرشحي أحد هذه التيارات لم يكن ليمنحه الأغلبية في مجلس النواب. إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه القوى السياسيّة ليس لها امتدادٌ شعبيٌّ فعليّ، بل إنّ المعيار الأساسيّ لاختيار معظم هذه القوى السياسيّة لمرشحيها كان مدى قوة ونفوذ كلّ واحدٍ من هؤلاء في دائرته على أسسٍ عشائريّة وتقليديّة، وليس على أسس ما يتمتعون به من رصيدٍ سياسيّ. ولذا، فقد كان على مرشحي التيارات السياسيّة إدارة حملاتهم الانتخابيّة بشكلٍ منفصلٍ موظِّفينَ ما يتمتعون به من دعمٍ تقليديٍّ اجتماعيٍّ أو عشائريّ. إن مراجعة ما طرحته أغلبية المرشحين - المستقلين وممثلي الأحزاب - من شعاراتٍ وبرامج، يُظهر أنّ أغلب هذه الشعاراتِ كانت شعاراتٍ عامّة ولم ترتق إلى ما كان متوقعًا من أوّل انتخابات تجري بعد عامين من الحراك الشعبيّ في الأردن والربيع العربيّ. وفي ظل غياب برامج المرشحين بشأن قضايا الإصلاح السياسيّ أو مواقفهم بشأن الكيفية التي يجب أن تكون عليها إدارة البلاد، ركّزت الحملات الانتخابيّة على صفاتِ ومؤهلاتِ المرشحين، وتمتعهم بالصدق والأمانة، وقدرتهم على حمل هموم ومشاكل المواطنين وإيصال صوتهم إلى مؤسسات الحكم. لقد تعاطت إستراتيجية غالبية المرشحين في حملاتهم الانتخابية مع مجلس النواب كمؤسسة وسيطة بين ناخبي دوائرهم والحكم، وليس على أساس أن هذا المجلس هو سلطة تضع السياسات العامة.
لم يكن غياب البرامج والتنافس السياسيّ عن الانتخابات الأخيرة أمرًا مقلقًا للنظام السياسيّ، فقد تلخّصت أهدافُ الدولة من إجراء الانتخابات في هدفين رئيسيّين، أوّلهما الحد من أثر مقاطعة التيارات السياسيّة المهمة في نسب الاقتراع؛ والثاني استعادة ثقة المواطنين بإمكانيّة إجراء انتخابات لا تتدخل أجهزة الدولة - وبالذات الأمنية منها - في مجرياتها. ولقد استطاع نظام الحكم إلى حدٍ كبيرٍ تحقيق هذين الهدفين، إذ إنّ نسبة التسجيل للانتخابات تجاوزت الثلثين من مجموع الذين يحق لهم الاقتراع، فيما كانت نسبة الاقتراع (56%)، وهي نسبةٌ مقبولةٌ مقارنةً بنسب الاقتراع في انتخابات سابقة. ولا شك في أنّ تسهيل عملية تسجيل المقترعين وتمديدها والحملة الدعائيّة والإعلاميّة قد ساهمت في نجاح النظام، لا سيما أنّ التيارات المقاطعة للانتخابات اكتفت باتباع آلية المقاطعة السلبيّة متمثّلة في الامتناع عن التسجيل في قوائم المقترعين من دون أن يكون هذا ضمن إستراتيجية متكاملة لحث المواطنين على مقاطعة الانتخابات. وساهمت زيادة عدد المرشحين خاصة ضمن القوائم الوطنية (61 قائمة) في تحقيق مستوى اقتراع عالٍ نسبيًّا. أمّا على صعيد عدم تدخل أجهزة الدولة في الانتخابات، فإنّ الإجراءات التي قامت بها الهيئة المستقلة المشرفة على الانتخابات من نشر قوائم الناخبين، واستخدام تقنيات مثل الحبر السريّ، وإتاحة الحرية للمراقبين المحليّين والدوليّين، وفرز الأصوات محليًا في لجان الاقتراع؛ ولّدَت قناعةً بأن ما جرى في انتخابات 2007 و2010 من تزوير لم يتكرر في هذه الانتخابات.
قانون الانتخاب وسيادة نمطٍ انتخابيٍّ تقليديّ
إضافة إلى غياب الزَخْم السياسيّ عن الحملة الانتخابيّة، فإنّ قانون الانتخاب قد ساهم في تكريس النمط التقليديّ العشائريّ وغير السياسيّ في العملية الانتخابيّة برمتها. فقد جرت الانتخابات النيابيّة الأخيرة وفق قانون انتخابٍ[3] قسّم عدد أعضاء المجلس المائة والخمسين إلى قسميين : قسم أوّل يضم 123 مقعدًا (85% من إجمالي مقاعد المجلس) موزّعة على 48 دائرة انتخابيّة، تجري الانتخابات فيها بقانون الصوت الواحد، إذ يكون للناخب صوتٌ واحد يمنحه لمرشحٍ واحدٍ بغض النظر عن عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابيّة؛ أما القسم الثاني، فيتضمن 27 مقعدًا (15% من مقاعد المجلس) وهي التي خصصت للقوائم الوطنية، إذ يُؤخذ الأردن كدائرة انتخابيّة واحدة ويحق للناخب أن يصوِّت لإحدى القوائم الوطنيّة المتنافسة.
مثّل اعتماد نظامٍ انتخابيّ مختلطٍ ما بين دوائر محليّة وقوائم وطنيّة تطورًا مقارنة بقوانين الانتخاب السابقة التي كانت تعتمد انتخاب جميع النواب من خلال الدوائر الفرعيّة، إلّا أنّ هذا التطور لم يُترجم في نقل العملية الانتخابيّة إلى مستوى أفضل مما كانت عليه، فإضافة إلى مقاطعة أحزاب المعارضة، كانت قلّة عدد المقاعد المخصصة للقائمة الوطنيّة تُنبئ بأنّ تشكيلة المجلس ستكون مرتهنةً بنتائج الدوائر الفرعيّة. علاوة على هذا، اتّضح أنّ القوائم التي شُكّلت لخوض الانتخابات الأخيرة لم تكن حزبيّة، بل كانت مدفوعة بالتوافق الشخصيّ بين المرشحين أكثر من توافقهم حول البرامج. فقد عمل الذين قاموا على تشكيل هذه القوائم على تجميع مرشحين ذوي قوةٍ انتخابيّةٍ عشائريّةٍ أو جهويّةٍ في مناطقهم بحيث يكون ما تحصل عليه القائمة من أصواتٍ هو مجموع ما يستطيع أن يحصل عليه كل واحدٍ من مرشحي القائمة في إطار محيطه الاجتماعيّ أو في منطقة سكنه. إذ جهدت أغلب القوائم في ضم مرشحين يمثّل كلٌّ منهم مكوّنًا من مكونات المجتمع، أو جهةً أو محافظةً. ولأن هذا كان هو هاجس الذين خاضوا الانتخابات في القسم المخصص للقوائم الوطنيّة، لم يكن مفاجئًا أنّ المحتوى البرامجيّ والسياسيّ لتلك القوائم كان في حده الأدنى. كانت هذه تجمعاتُ مرشحين محليّين وليست قوائمًا وطنيّةً سياسيّة كما يفترض أن تكون.
قائمتان كسرتا هذا النمط، وتبنتا برنامجًا وخطابًا انتخابيًّا بمحتوى سياسيّ واضح يقوم على تقسيم المجتمع الأردنيّ بحسب أصوله (الأردنيّة والفلسطينيّة)، ويعتمد على تحفيز مشاعر الإقليميّة وتعظيم المخاوف المتبادلة بين مكونَي المجتمع. وكان من الواضح أنّ هذا الخطاب الإقليميّ لم يجد قبولا لدى جمهور الناخبين، ومُني بخسارةٍ قاسيةٍ، إذ إنّ القائمتين حصلتا مجتمعتين على أقل من 1.8% من أصوات الناخبين. وهو ما يمكن أن يُقرأ بأنه نسبة المتعاطفين في حدها الأعلى مع التيارات الإقليميّة مجتمعة، "الأردنيّة" منها و"الفلسطينيّة".
لقد فشل الرهان على أن تُحدث القوائم الوطنيّة نقلةً نوعيةً في العملية الانتخابيّة تتجاوز أنماط الانتخاب الجهويّ والعشائريّ، فبقى العنصر الأساسيّ المحدّد لتشكيلة مجلس النواب هو ما تفرزه الانتخابات على صعيد الدوائر المحليّة.
ساهم اعتماد مبدأ الصوت الواحد - الذي طبق منذ عام 1993 - على مدار عقدين في تكريس نمطٍ انتخابيٍّ ينحاز فيه القطاع الأوسع من الناخبين إلى مرشحي الأطر التقليديّة (أطر عشائريّة أو شبه عشائريّة مثل روابط بلدات الأصل) على حساب مرشحي القوى والتيارات السياسيّة. وزاد من سيادة هذا النمط الانتخابيّ إعادة تقسيم الدوائر الانتخابيّة في المملكة في عام 2003 إلى دوائر أصغر[4]، فقد ضاعف هذا التقسيم - خاصة في دوائر المراكز المدينيّة الصغرى أو الأرياف - القوة الانتخابيّة للأطر التقليديّة. وساهم صغر الدوائر الانتخابيّة واعتماد مبدأ الصوت الواحد في تكريس أنماط التصويت على أسسٍ عشائريّةٍ أو شبة عشائريّة، بل أكثر من ذلك، انقسم المجتمع على أساس الهوّية الفرعية المستندة إلى الانتماء القرابيّ أو شبه القرابيّ. وبذلك، فإنّ العوامل المحدّدة التي حكمت السلوك الانتخابيّ والعملية الانتخابيّة لم تتأسس على أرضية المهام الدستوريّة لمجلس النواب الذي هو سلطة من سلطات الدولة تقوم بالتشريع والرقابة على الحكومة وتمنحها الثقة أو تحجبها عنها؛ بل كانت أقربَ إلى التعامل مع مجلس النواب كإطارٍ وسيطٍ بين المجتمع والحكومة، يقوم بالعمل على تأطير مطالب الناخبين في دائرة انتخابيّةٍ من أجل تعظيم حصّتهم من الخدمات أو المزايا. ومن الواضح أنّ الانتخابات الأخيرة كانت محكومةً بهذا النمط، أكان ذلك على صعيد ما طرحه المرشحون أم على صعيد كيف صوّت الناخبون الذين شاركوا في الانتخابات. وتكفي الإشارة إلى أنّ هذه الانتخابات شهدت مثلها مثل انتخاباتٍ سابقة طغيان أسلوب الإجماعات العشائريّة، أو انتخاباتٍ عشائريّةٍ تمهيديّةٍ من أجل التوافق على مرشحٍ واحدٍ[5] يخوض الانتخابات باسم العشيرة أو رابطة أهالي بلدة أو منطقة. فأكثرية المرشحين اعتمدت على القواعد الاجتماعيّة التقليديّة، وكانت أسيرة توازن القوة الانتخابيّة للأطر التقليديّة في تلك الدوائر. وعليه، فإنّ أغلبية النواب المنتخبين فازوا بحكم عصبية العشيرة أو بلدة الأصل، وليس بحكم برنامجٍ انتخابيٍّ طرحوه ويُحاسبون عليه.
يمكن القول إنّ أغلبية جمهور الناخبين في الأردن قد تعاطوا مع الانتخابات اعتمادًا على واحد من ثلاثِ منطلقاتٍ رئيسة:
1- مقاطعة الانتخابات تسجيلًا أو اقتراعًا، وذلك احتجاجًا على قانون الانتخاب وامتثالًا لدعوة المقاطعة.
2- عدم المشاركة من منطلق عدم جدوى الانتخابات، وأنّ مجلس النواب لن يكون له دورٌ في إجراء تغييراتٍ جوهريّةٍ في الحياة السياسيّة.
3- المشاركة في الانتخابات، وهي حال قطاعٍ من الناخبين حكمت خياراته في أكثريته دوافعٌ جهويّةٌ وتقليديّةٌ وعشائريّةٌ.
تغيب التكتلات القائمة على أساسٍ سياسيٍّ عن مجلس النواب الجديد، أمّا التكتلات النيابيّة التي سرعان ما نشأت عقب الانتخابات، فأساسها نقاط توافقِ الحدّ الأدنى بين أعضائها، وهي أقرب إلى الانسجام الشخصيّ والاجتماعيّ بين أفرادها منه إلى التوافق على نقاطٍ برامجيّةٍ. وعليه، فإنّ بقاء هذه التكتلات على حالها واحتفاظها بأعضائها مرتهنٌ بتساهلها مع عدم التزام أعضائها بنقاط برامجيّة محدّدة، ومنحهم الحرية في تقديم خدماتٍ لجمهور ناخبيهم.
ليس من المتوقع أن يكون المجلس بمثل هذه التركيبية قادرًا على أن يضع أجنداتٍ سياسيةٍ واضحةٍ في إطار التشريع والتحوّل الديمقراطي أو الرقابة، ناهيك عن تشكيل حكومةٍ. بل تدلّ المشاورات التي قادها رئيس الديوان الملكيّ لاستشارة الكتل النيابيّة وجمع مقترحاتٍ لاسم رئيس وزراء على أنّ مجلس النواب ليس توَّاقًا إلى اقتراح أسماء، فاكتفت الكتل النيابيّة في الجولات الأولى باقتراح مواصفاتٍ لرئيس الوزراء الجديد أكثر من اقتراح أسماءٍ محددة.
ما بعد الانتخابات
لقد نجح النظام السياسيّ في إجراء الانتخابات ضمن نسبِ مشاركةٍ مقبولة على الرغم من مقاطعة القوى المعارضة لها، ونجح في توظيف إجراءاتٍ بدّدت المخاوف لدى معظم الأردنيّين من أنّ الانتخابات ستكون عرضةً لتدخّل أجهزة الدولة. كما أنّ إجراء المشاورات مع البرلمان لتشكيل حكومةٍ هو تغييرٌ لقواعد تشكيل الحكومات وتقاليده. كان نجاح النظام السياسي في دفع برنامجه الإصلاحيّ نتيجةً موضوعيةً لكون ميزان القوى بين النظام السياسيّ وقوى الحراك الشعبيّ والتيارات المعارضة لم يصل على الإطلاق إلى مرحلة تقود النظام السياسيّ للقبول بتنازلاتٍ جوهريّة. كما ساعد على نجاح النظام السياسيّ في تطبيق رؤيته للإصلاح تفتت قوى الحراك الشعبيّ إلى حركاتٍ جهويّة، وحتى محلية، يصوغ كلٌّ منها رؤيته للإصلاح بما تقتضيه أجندته المحليّة، مع غياب التنسيق والتكامل بين هذه الحركات. كما أنّ القوى السياسيّة المعارضة تعوزها وحدة البرنامج مثلما يعوزها التوافق على إستراتيجيات وخطط عمل. إضافة إلى أنّ جماعة الإخوان المسلمين تعاني مشاكلَ داخليّةً بين أجنحتها، تفجّرت خلال الأشهر القليلة الماضية؛ تضعف حركتها وتهدد بانقسامها.
ويبقى النظام السياسيّ أمام معضلةٍ هيكليّة تكمن في أنّ شريكه المستقبليّ في عملية الإصلاح السياسيّ هو مجلس النواب المفرغُ من السياسة. ولا تتعدى تمثيليّة هذا المجلس مجموع تمثيل النواب لقواعدهم الانتخابيّة التقليديّة، وهو الأمر الذي يجعل المجلسَ غير قادرٍ على تأمين شرعيةٍ إضافيةٍ للنظام السياسيّ، بل من الممكن أن يمثّل عبئًا عليه في حال دخول البلاد أزماتٍ سياسيّة. وعليه، يجد النظام السياسيّ نفسه أمام ضرورة توسيع قاعدة الشراكة مع القوى السياسيّة المعارضة ليضمن نجاح المشروع الإصلاحيّ وإضفاء شرعية عليه.
[1]. شهدت السنوات العشر الماضية ميلاد إحدى عشرة حكومة، جميعها جرى عليها تعديل واحد أو أكثر، بل إن خمس حكومات تعاقبت خلال أقل من سنتين ونصف.
[2]. بدأ تطبيق مبدأ الصوت الواحد في الانتخابات النيابية في الأردن منذ عام 1993، إذ أعطى الناخب في دائرة انتخابية ما حق انتخاب مرشح واحد بغض النظر عن عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابيّة. على سبيل المثال، يحق لناخبٍ في دائرةٍ مخصصٍ لها أربعة مقاعد انتخاب مرشحٍ واحد.
[3]. يخصص قانون الانتخابات الأردنيّ حصة 15 مقعدًا للنساء وتسعة مقاعدٍ للمسيحيّين وثلاثةً للشركس والشيشان وتسعةً للبدو.
[4]. حُددّ عدد الدوائر الانتخابية في المملكة الأردنية بـ21 دائرة في عام 1989، وتحولت إلى 48 دائرة انتخابية منذ عام 2001. كان هنالك دائرة انتخابية واحدة في كل محافظة من المحافظات (باستثناء محافظتي عمان وأربد اللتين ضمت كلّ واحدة منهما أكثر من دائرة واحدة).
[5]. على سبيل المثال، أُعلن فوز المرشح عن المقعد الشركسي / الشيشاني في محافظة الزرقاء بالتزكية، إذ أجمع مجلس عشائر الشيشان على ترشحيه ودعَم هذا الترشح مجلس عشائر الشركس، فلم يترشح أحد سواه للمقعد.
 
أزمة مالي والتدخل الخارجي
مركز الدوحة للدراسات
بعد انقضاء اثنين وعشرين يومًا على بداية التدخّل العسكري الفرنسيّ في مالي، حلّ الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاند في مدينة تومبكتو في شمال مالي في 2 شباط / فبراير 2013، في إعلانٍ واضح عن نجاح القوّات الفرنسية مدعومة بقوّات الجيش الماليّ وقوّات من دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا في تحقيق الهدف الرئيس لما أطلقت عليه فرنسا تسمية "عملية الهرّ الوحشي"، وهو استعادة السيطرة على المدن الرئيسة التي وقعت في قبضة المجموعات الإسلامية المتطرّفة المتحالفة مع المتمرّدين الطوارق*. لكن الرئيس الفرنسيّ أكّد في تصريحاته من باماكو التي أنهى فيها زيارته، أنّ القوّات الفرنسيّة باقية في مالي طالما كانت هناك حاجة إلى ذلك، وأنّ الحرب لم تنته بطرد المجموعات الإسلامية المتطرّفة خارج مدن شمال مالي.
لقد كان شمال مالي طوال عقودٍ منطقة صراع مسلّح تخوضه حركات طوارقية ماليّة متمرّدة ضدّ الحكومة المركزية في البلاد، على خلفية مطالبَ سياسية إثنية بلغت حدود المشروع الانفصالي، لكن الصراع تحوّل جذريًّا في عام 2012 بانخراط جماعات إسلامية مسلّحة متطرّفة فيه، ودخول فرنسا ومن ورائها القوى الغربيّة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) إلى جانب الحكومة الماليّة مع بداية عام 2013 في حرب ضدّ هذه الجماعات الإسلامية التي سيطرت على شمال البلاد.
تحاول هذه الورقة فحص مسارات الأزمة في مالي والعوامل التي أثّرت في تطوّراتها، ودوافع التدخّل العسكري الفرنسي، وتوقّعات مآلات الوضع بعد استرجاع القوّات الفرنسيّة والقوى المساندة لها مدن شمال مالي.
التمرد في شمال مالي
يعدّ عدم الاستقرار وحركات التمرد في الشمال سمةً دائمة من سمات الوضع الماليّ. في حين تميّزت الأوضاع السياسية بالصراع على السلطة على وقع الانقلابات والأنظمة الديكتاتورية مع اضطرابات اجتماعية ووضعٍ اقتصادي هشّ، وزادت فترات الجفاف والقحط الممتدّة من حدّته، إذ تعدّ مالي من بين أفقر عشرين دولة في العالم[1].
وظلّت الخريطة الاقتصادية والاجتماعية لمالي على مرّ عقود الاستقلال ترسم خطّ فصل افتراضي بين جزأين متمايزين؛ شمال هو الأكثر تضررًا من الجفاف والأقلّ تنمية تمثّل تمبوكتو وغاو وكيدال أهمّ مدنه، وجنوب تقع فيه العاصمة باماكو وتتركّز فيه الأنشطة الاقتصادية الأساسية في البلاد.
علاوةً على التمايز الاقتصادي الاجتماعي ما بين إقليمَي مالي، فإنّ هنالك أبعادًا أخرى يجب تناولها هنا كعوامل للأزمات المتتالية في مالي. إذ إنّ دولة مالي - البالغ عدد سكّانها 14.5 مليون - شديدة التنوّع من الناحية الإثنية[2]. وغنيّ عن القول إنّ هذا التنوّع الهجين ما هو إلا نتيجة للحدود التي وضعتها فرنسا لمستعمرة "السودان الفرنسي" (تشكّلت في أغلبها من أراضي دولة مالي الحاليّة) ضمن تقسيم مستعمراتها الثماني في غرب أفريقيا في1895 والمعتمد على معايير الثروات الطبيعية التي تمتلكها كلّ مستعمرة وعلى أساس مدى السيطرة الفرنسيّة على مناطقها المختلفة، وليس على أساس التجانس بين سكّان هذه المستعمرات.
قام الطوارق بحركات تمرّد متكرّرة على امتداد العقود الخمسة لاستقلال مالي، وشهدت الفترة ما بين عام 1990 وعام 2009 أكبر عددٍ من محاولات التمرّد. وغذّى عاملان رئيسان عدم الاستقرار في دولة مالي؛ أوّلهما التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين إقليمَي مالي الرئيسين (الشمال والجنوب) وشعور سكّان الشمال وفي مقدّمتهم الطوارق بمحاباة إقليم الجنوب ببرامج التنمية على حساب إقليمهم، أو على الأقلّ فشل سياسات التنمية في الشمال على نحوٍ أشدّ وضوحًا من الجنوب. أمّا العامل الثاني، فهو التنوّع الإثني وهيمنة إثنية واحدة على مقاليد الحكم منذ الاستقلال، ما عزّز الشعور بعدم الانتماء لدى الطوارق والأقلّيات الإثنية الأخرى في الشمال التي أصبحت تنظر إلى الدولة كممثّلة لمجموعةٍ إثنية أو قبلية تهيمن على باقي الإثنيات والقبائل. فالدولة بالنسبة إليهم ليست سوى إثنية "البومبارا" المسيطرة على مؤسّسات الحكم منذ استقلال البلاد في عام 1960[3]. ولم تفشل دولة مالي الحديثة في تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة بين أقاليمها فحسب، بل فشلت فشلًا ذريعًا في دمج مواطنيها في إطار هويّة جمعية واحدة أساسها المواطنة، تتجاوز حدود الانتماءات الإثنية والقبلية.
وانتهت محاولات التمرّد الطوارقية في القرن الماضي وفي العشرية الأولى من القرن الحالي باتفاقيات سلام بين المتمرّدين الطوارق والحكومة الماليّة. وشهدت الفترة التي تلت آخر اتفاقية من هذا النوع في عام 2009 استقرارًا نسبيًّا، حتّى اندلاع تمرّدٍ جديد في كانون الثاني / يناير 2012. ويختلف هذا التمرّد عمّا سبقه في عدّة وجوهٍ أهمّها:
أوّلًا: إنّ هذا التمرّد هو محصّلة تحالف بين حركات طوارقية وطنية ومجموعات إسلاميّة متطرّفة من جنسيات مختلفة (ماليّة، ونيجيرية، وموريتانية، وجزائرية) نشطت في مناطق الطوارق واستطاعت استمالة بعض المجموعات الطوارقية إلى برنامجها، واستفادت من مخزون السلاح الذي وصل من كتائب طوارقية كانت من ضمن كتائب نظام القذافي قبل سقوطه. ولم يكن هذا التحالف وليد لحظة التمرّد في 2012، فلقد نسجت المجموعات الإسلاميّة المسلّحة والحركات الطوارقية الانفصالية علاقات اعتماد متبادل اقتصادية وأمنيّة ومنفعيّة خلال السنوات القليلة الماضية. وقد ساهم تحوّل طرأ على بعض قيادات التمرّد الطوارقي وعناصره في تسهيل التحالف، إذ أصبحت جماعة "أنصار الدين" الطوارقية السلفيّة الجهاديّة إحدى أبرز الحركات المؤثّرة في مناطق الطوارق[4].
ثانيًا: إنّ جميع اتفاقات السلام التي عُقدت بين الحكومة المركزية والحركات الطوارقية إلى ما قبل هذا التمرّد، وكانت برعاية دولٍ مجاورة وعلى رأسها الجزائر، قد استنفدت إمكانيات استمرارها لأنّها لم تكن ضمن إطار عملية سياسيّة كاملة في مالي، ولم تنعكس إيجابيًّا على سكّان شمال مالي. وخلال السنوات الأربع الماضية، لم تطرح أيّ مبادرات لاتّفاقات بين طرفَي الأزمة. بل لم يكن هنالك تنبّه أو اهتمام من وسطاء اتفاقية سلام 2009 لمتابعة تطبيقها. ولذا، فإنّ محاولات الوساطة السلمية التي تجدّدت خلال عام 2012، سواء تلك التي قامت بها الجزائر أو تلك التي رعتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، جاءت متأخّرة لأنّ الوضع على الأرض قد تغيّر لفائدة حركة التمرّد، إضافةً إلى أنّ العناصر الفاعلة في حركة التمرّد الجديدة كانت مختلفة عن الفاعلين في حركات التمرّد السابقة، فالحركات الإسلاميّة المتطرّفة وكذلك الجناح السلفي للمتمرّدين الطوارق (جماعة أنصار الدين) أصبحت أطرافًا فاعلة في التمرّد، وقيادة هذا التمرد غير معنيّة أو مهتمّة بما يمكن أن تقدّمه هذه التسوية لها أو لسكّان شمال مالي. كما أنّ جهد دول الجوار للوصول إلى اتّفاق تسوية لم يكن مجديًا على الإطلاق، إذ كان المستهدفون منها والمدعوّون للحوار هم الحركات الوطنية الطوارقية التي لا تملك أن تغيّر شيئًا على أرض الواقع بعد أن طُردت من شمال مالي حين أصبح الإقليم تحت سيطرة الحركات الإسلاميّة المتطرّفة.
ثالثًا: جرت حركة التمرّد هذه في وقتٍ كانت فيه الحكومات الماليّة في أضعف حالتها، ففي آذار / مارس 2012 خرجت تظاهرات مندّدة بالحكومة شارك فيها عناصر من الجيش. وفي 22 آذار / مارس أطاح انقلابٌ عسكري بالرئيس أمادو توماني توري. وأصبحت السمة الرئيسة للوضع في العاصمة الماليّة باماكو هي صراع على السلطة في ظلّ توازن قوى هشّ بين النخب السياسية المدنيّة والانقلابيّين العسكريّين الذين أمسكوا بزمام السلطة. ويذكر في هذا السياق أن لا خلاف جوهري بين هذين التيّارين بشأن آليّة التعامل مع الأزمة والموقف المؤيّد للتدخّل الفرنسي والاعتماد عليه.
تدخّل فرنسي لتعزيز النفوذ
لم يكن تدخّل فرنسا العسكري في مالي مفاجئًا، إذ إنّها كانت أكثر اللاعبين الدوليين والإقليميين انغماسًا في الأزمة المالية منذ اندلاعها في عام 2012. وكانت صاحبة الدور الرئيس في نقل أزمة مالي لتناقَش دوليًّا، وفي استصدار ثلاثة قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة[5]. وكان الجهد السياسي الفرنسي العامل المحرّك لقيام المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إكواس" بإرسال قوّات إلى مالي في مهمّة الحفاظ على وحدة التراب المالي. اعتمدت إستراتيجية فرنسا في التعاطي مع الأزمة في مالي أساسًا على تدويل الأزمة، وحشد الدعم الإقليمي والدولي لمساندة الحكومة المركزية في مالي، إضافةً إلى اعتمادها على الجهد العسكري لبلدان غرب أفريقيا مع دعمها لوجستيًّا، وماليًّا، واستشاريًّا. وعلى الرغم من تعدّد الأهداف وتداخل المصالح الإقليمية بين بلدان غرب أفريقيا ومالي، فإنّ أحد العوامل المحفّزة لتدخّل قوّات مجموعة دول غرب أفريقيا كان لتحقيق الرؤية والأهداف الفرنسيّة إزاء الأزمة. بل يمكن القول إنّ فرنسا كانت لتكتفي بالتدخّل الأفريقي العسكري لو أنّه كان قادرًا على حسم المعركة، أي أنّها كانت ستكون راضية بأن تخوض قوّاتٌ أخرى معركة بالوكالة عنها فتحقّق أهدافها ورؤيتها من الأزمة الماليّة من دون أن تتورّط قوّاتها في القتال بصورةٍ مباشرة.
إزاء ضآلة احتمال تحقيق التدخّل العسكري الأفريقي بالوكالة عن فرنسا أهدافه، خاصّةً مع إحكام المجموعات الإسلاميّة سيطرتها على شمال مالي وتحضيرها للتوجّه إلى الجنوب واستهداف العاصمة، تحوّل الموقف الفرنسيّ من اللاعب الرئيس باستثمار أداوت غير مباشرة متاحة له إلى اللاعب المباشر وباستخدام أداته العسكرية.
جاء التدخّل العسكري المباشر لفرنسا[6] في أعقاب إعلان حالة الطوارئ في مالي وبناءً على طلبٍ رسمي من الحكومة الماليّة؛ الأمر الذي ساهم في أن تبرّر فرنسا تدخّلها بأنه يقع ضمن إطار مساندة دولة صديقة وليس انتقاصًا من سيادتها، وبهدف طرد المجموعات الإسلامية المتطرّفة، أي أنّ حرب فرنسا أصبحت تقع ضمن "الحرب على الإرهاب" التي أصبحت تعبيرًا هلاميًّا وغير محدّد لكنّه مبرّر ومقبول على الصعيد الدولي في ظلّ استهداف حركات في بلدان عدّة، وبغضّ النظر عمّا تعنيه من اختراق لسيادة تلك البلدان، بل من دون أن تثير أسئلة أو أزمات في منظومة العلاقات الدولية.
بعيدًا عمّا تروّجه فرنسا من أسبابٍ لتدخّلها العسكري، هنالك مجموعة من العوامل تفسّر مجتمعةً هذا الانغماس الفرنسي في الشأن المالي بصفةٍ عامّة، على رأس هذه العوامل أنّ فرنسا لم تكن على الإطلاق بلدًا غائبًا عن المشهد السياسي في منطقة غرب أفريقيا بصفةٍ عامّة وعن المشهد السياسي في مالي بصفةٍ خاصّة. فعلى صعيد مالي، كانت فرنسا لاعبًا أساسيًّا وطوال العقود الماضية في دعم أنظمة سياسية هنالك أحيانًا، وفي دعم معارضيها في أحيانٍ أخرى. وغنيّ عن القول إنّ فرنسا تنظر إلى منطقة غرب أفريقيا كمنطقة نفوذٍ جيوسياسي تمارس التأثير فيها من خلال العلاقات مع أنظمة تلك البلدان أو مع حركاتٍ سياسية محدّدة فيها، وذلك في إطار ما اصطلح البعض على تسميته سياسة "فرنسا- أفريقيا" Françafrique[7]. فتدخّل فرنسا العسكري في مالي ليس أوّل تدخّل لها في أفريقيا، فمنذ عام 1960 تدخّلت أكثر من أربعين مرّة في نزاعاتٍ أفريقية وأزماتٍ داخلية في بلدانٍ أفريقية كانت مستعمرات لها. وتشير مراجعة سريعة لمسوّغات تدخّلات فرنسا العسكرية إلى أنّه لا يمكن إجمال هذه المسوغات في إطارٍ واحد، فأحيانًا كانت تتدخّل لفائدة أنظمةٍ سلطويّة أو ديكتاتورية، وأحيانًا أخرى لفائدة تحوّلات ديمقراطية، ومرّات لمساندة جانبٍ سياسي على حساب آخر. وكانت مصالح فرنسا دائمًا الدافع الثابت لتدخّلاتها العسكرية في أفريقيا بمسوغات متغيّرة.
تمثّل مصالح فرنسا الاقتصادية في منطقة الغرب الأفريقي عاملًا تفسيريًّا آخرَ لإستراتيجيتها في هذا الإقليم وكذلك في تعاملها الأخير مع أزمة مالي. وعلى الرغم من محدودية مصالحها الاقتصادية المباشرة في مالي بحكم محدودية استثماراتها فيها مقارنةً مع بلدان أخرى، إلا أنّ مالي قطعة مهمّة في إطار إقليمٍ تنشط فيه فرنسا اقتصاديًّا. وعليه، فإنّ تهديد استقرارها يهدّد مصالح فرنسا الاقتصادية في بلدانٍ مجاورة مثل: النيجر، والسنغال، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار[8]. ولمالي أهمّيةٌ بالغة بالنسبة إلى فرنسا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مناجم اليورانيوم النيْجرية التي توفّر احتياجات المحطّات الفرنسية النووية التي تقع مباشرةً على حدود النيجر مع مالي[9].
كما يجب أن يُفهم التدخّل في مالي في سياق سياسة هجومية في أفريقيا تتبعها فرنسا في السنوات الأخيرة في إطار تنافسها مع الدول الكبرى على النفوذ هناك؛ فالنفوذ الفرنسي كان عرضةً لخطر الانحسار خلال سنوات إدارة "بوش" 2000 - 2008 التي انتهجت سياسة تدخّلية أميركية واسعة المدى ومتعدّدة الأهداف في أفريقيا، منها السعي لتنويع مصادر الطاقة للاقتصاد الأميركي، وحماية خطوط نقل الطاقة التي تمرّ عبر الممرّات البحرية المجاورة لقارّة أفريقيا (قناة السويس، خليج عدن، ورأس الرجاء الصالح)، ولتعزيز نفوذها السياسي والعسكري. وتعدّدت الوسائل الأميركية لتنفيذ هذه السياسة، فبعضها كان من خلال مساعدات اقتصادية أو تنسيق أمني، وبعضها كان من خلال مشاريع إقامة قواعد عسكرية[10]. وقد تعاملت فرنسا مع هذه السياسة الأميركية بمزيجٍ من مواقفَ دفاعية وتسليم بالأمر الواقع وسياسة الانتظار، ثمّ عادت لتستغلّ التغيير الذي جاءت به سياسة إدارة أوباما الأقلّ توسعيّة في أفريقيا والأقرب للانكماشية، وتبنّت سياسة هجوميّة ذات طبيعة عسكريّة من أجل تثبيت نفوذها ومراكز قوّتها في القارّة. ويتّخذ هذا التنافس الأمني أهمّية قصوى في ضوء حقيقة أنّ التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ اقتصاديًّا راح يُحسَم وبصورةٍ جليّة لفائدة الصين التي أصبحت منذ عام 2009 الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا. وإذا كان التدخّل في مالي نموذجًا، فإنّ هذه السياسة الفرنسيّة لا يعترضها أيّ نقدٍ أو معارضة من الشارع أو النخب الفرنسية[11]. فالمتتبّع لتصريحات السياسيّين الفرنسيين وتعليقات الصحافة الفرنسيّة يستنتج أنّ هذه السياسة التدخلية في أفريقيا تكاد تحظى بالإجماع.
تعكس التدخّلات العسكرية الفرنسيّة المباشرة في أفريقيا وتدخّلها الأخير في مالي - بغضّ النظر عن تبريرات فرنسا وحججها - اعتماد فرنسا على ثلاث إستراتيجيات متداخلة ومركّبة في إطار حفاظها على نفوذها في أفريقيا وتنافسها مع دولٍ كبرى أخرى، أولاها العلاقات التاريخية البنيوية بين فرنسا وبعض الأنظمة والحركات السياسية وبعض النخب الاقتصادية والثقافية في تلك البلدان، وثانيتها استثمار العلاقات الاقتصادية القائمة أصلًا وتوسيعها وتعميقها، وثالثتها الإستراتيجية العسكرية والأمنية التي قد تتطوّر في حال الأزمات إلى تدخّلٍ عسكري مباشر.
إذا كانت فرنسا قد لجأت إلى التدخّل العسكري في مالي لتحقيق رؤيتها لحلّ الأزمة في إطار المحافظة على نفوذها ومصالحها، فالملفت للانتباه هو عدم وجود ممانعة دولية أو إقليمية لهذا التدخّل. فبالنظر إلى غياب الحدّ الأدنى من التفاهم بين الدول الكبرى بشأن التدخّل في أزمات مختلفة في العالم، كان من المتوقّع أن يثير تدخّل فرنسا في مالي نوعًا من المعارضة أو على الأقلّ التردّد لدى أقطاب المجتمع الدولي أو الإقليمي. وتشير مراجعة مواقف الدول الكبرى إلى أنّ العكس هو الصحيح، فقد حظي هذا التدخّل بدعم المجتمع الدولي بل إنّ روسيا عرضت تقديم دعمٍ عسكري للتدخّل الفرنسيّ[12]. إنّ نجاح فرنسا في كسب موافقة المجتمع الدولي يترجم اليوم في مؤتمرٍ دولي حول مالي واضح الأجندة، ناقش إمكانية تحويل قوّات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لتصبح قوّة حفظ سلام أممية[13].
العملية السياسية في مالي ومصير أمن المنطقة
حقّق التدخّل العسكري الفرنسيّ في مالي على الأقلّ اثنين من أهدافه المعلنة، وهما: وقف تقدّم المجموعات الإسلامية المتطرّفة نحو جنوب البلاد وتهديد العاصمة بماكو، وتحرير معظم المدن الرئيسة في الشمال ممّا دفع هذه المجموعات إلى اللجوء إلى مناطقَ جبلية وعرة في الشمال الشرقيّ لمالي على الحدود الجزائرية. وقد تسعى هذه المجموعات إلى تنفيذ هجمات في إطار حرب عصابات ضدّ القوّات الفرنسية والقوّات المساندة لها، علاوةً على إمكانية تنفيذ عمليات ضدّ مراكزَ حسّاسة (في صناعة النفط والغاز والتعدين) في دول الجوار الجغرافي للساحل الأفريقي، على نموذج عملية عين أمناس الأخيرة في الجزائر.
وعلى الرغم من تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأنّ فرنسا لن تغرق في "مستنقعٍ" جديد في مالي، بعد أن سحبت قوّاتها من المستنقع الأفغاني، نظرًا لأنّها تحظى بدعم الشعب المالي والاتّحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، فنجاح القواّت الفرنسيّة والأفريقيّة في إعادة الاستقرار في مالي يتوقّف على عاملين: أوّلهما مصير التحالف بين هذه المجموعات والحركات الطوارقية المتمرّدة؛ أمّا ثانيهما فهو إيجاد حلٍّ شامل وعادل لمطالب الطوارق، من خلال عملية سياسية شاملة في مالي، تسمح ببناء نظامٍ ديمقراطي يستوعب جميع أطياف المجتمع الماليّ وخاصّةً الطوارق الذين يعانون من التهميش والإقصاء.
نلاحظ فيما يخصّ العامل الأوّل، أنّ "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" الطوارقية سارعت إلى اقتراح تقديم خدماتها للقوّات الفرنسية والأفريقية من أجل ملاحقة أعضاء الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة. ولقد ألقت القبض بالفعل، مؤخّرًا على عنصرين بارزين من "حركة أنصار الدين" الطوارقية السلفية و"حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا" المرتبطة بالقاعدة، قرب الحدود مع الجزائر وسلّمتهما للقوّات الفرنسية. كما انشقّ عدد كبير من قيادات "حركة أنصار الدين" الذين شجبوا تحالف الحركة مع المنظّمات المتطرّفة المرتبطة بالقاعدة، وأسّسوا تنظيمًا جديدًا تحت اسم "حركة أزواد الإسلامية"، في محاولة لتبرئة أنفسهم من كلّ ما هو مرتبط بالقاعدة.
أمّا فيما يخصّ العامل الثاني، فإنّه من المبكر الحكم على نوايا الحكومة الماليّة وعلى قدرتها على بناء علاقة جديدة مع الطوارق، ولكن فشل جميع المحاولات السابقة لإيجاد حلٍّ سياسي عادل لهذه المعضلة منذ استقلال مالي عن فرنسا في الستينيات من القرن الماضي إلى حدّ الآن، لا يبشّر بالخير، وخاصّةً في ضوء الممارسات الانتقامية والتجاوزات التي يتعرّض لها الطوارق والعرب على أيدي القوّات الماليّة في عملياتها العسكرية لإعادة السيطرة على شمال البلاد. والجدير بالذكر أنّ الحركة الوطنية لتحرير أزواد انتهزت فرصة التدخّل العسكري الفرنسي من أجل العودة إلى الميدان بقوّة في منطقة كيدال التي تعدّ معقلها التقليدي، وفرض وجودها كقوّة فعلية في شمال شرقيّ مالي، بعد أن طردتها الحركات الإسلاميّة المتطرّفة. ولا يبدو أنّ الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد تخلّت عن مطلبها بالاستقلال، وعبّرت عن هذا التوجّه من خلال رفضها دخول قوّات ماليّة إلى مدينة كيدال إلى جانب القوّات الفرنسيّة والأفريقية. ولهذه الأسباب، لا تدلّ المؤشّرات الأوّلية على العلاقة ما بين الحكومة المركزية في بماكو ومجموعات الطوارق في الشمال الشرقي للبلاد، على نهاية الصراع بينهما. إذ لا تزال الفجوة كبيرة وانعدام الثقة متجذّرًا بين الطرفين. وعليه، فإنّه من غير المستبعد أن ينفجر الوضع في المستقبل ويفتح جبهات جديدة في دول الجوار، علمًا أنّ المسألة الطوارقية ليست محصورة في مالي فقط، فمناطق انتشار الطوارق تتوزّع بين النيجر وليبيا والجزائر. وتبقى مسألة تحالف الطوارق مع المجموعات المسلّحة المتطرّفة أو غيرها من أطرافٍ وقوًى خارجية مفتوحة لحسابات المراحل القادمة.
وتبرز أيضًا أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به دول المغرب العربيّ في إنهاء الوضع الخطير القائم عند حدودها الجنوبية، وتبدأ في الاعتراف بدورها السلبي في هذه الأزمة نظرًا للصراعات والتنافس فيما بينها بدلًا من توحيد مساعيها من أجل بلورة سياسة أمنيّة تكون جزءًا من سياسة منطقة المغرب العربي نحو الجنوب الأفريقي في إطار مفهوم الأمن القومي العربيّ. لقد كان من الأجدر لدول المغرب العربي، والجزائر خاصّةً، أن يكون لها الدور الريادي في حلّ أزمة مالي، علمًا وأنّ الجزائر قد بادرت في السابق بإنشاء القيادة العسكرية المشتركة بين دول الساحل، ومقرّها تمنراست في الجزائر، من أجل منع أيّ تدخّلٍ خارجي في المنطقة. ومن الغريب أنّ هذه المؤسسة لم تفعَّل ولم تقم بالدور المنوط بها. كما لا يجب أن ننسى أنّ الأزمة الحاليّة في شمال مالي تجد جذورها، علاوةً على العامل الداخلي، في عواملَ إقليمية مرتبطة بالوضع السياسي في دول المغرب العربي. إذ إنّ هذه المجموعات الإسلاميّة المتطرّفة الناشطة في منطقة الساحل هي من إفرازات الصراع السياسي في الجزائر والحرب الأهليّة فيها، وتداعيات التدخّل الخارجي أثناء الثورة الليبيّة، وانتشار السلاح في المنطقة الذي سمح بحسم المعارك لصالح المتمرّدين والجماعات الإسلامية المتطرّفة في شمال مالي في بداية عام 2012. على دول المغرب العربي أن تمارس دورها في الدفع نحو عمليةٍ سياسية في مالي وإطلاق مشاريع التنمية فيها، على أن تكون هذه المساهمة في إطار سياسة أمنٍ قومي عربيّ شامل لا يتوقّف عند حدودها الجغرافية.
قد تنجح العملية العسكرية التي تقودها فرنسا، على المدى القصير، في طرد المجموعات الإسلامية المتطرّفة وملاحقتها نظرًا لطابعها وعدم تمتّعها بقاعدة شعبية محلّية في مالي، عكس حركة طالبان في أفغانستان مثلا المتجذّرة في الوسط القبلي الباشتوني؛ ولكن، وعلى المدى البعيد، فإنّ عودة الاستقرار إلى مالي ومنطقة الساحل تتوقّف على مدى جدّية العملية السياسيّة وشموليتها ووضع الأسس لسياسة تنمويّة شاملة بدعمٍ إقليمي ودولي.
أمّا عن فرنسا، فإنّه يمكن اعتبار تدخّلها العسكري في مالي ضمن إجماعٍ فرنسي داخلي، دلالة على أنّ سياسة "فرنسا المهيمنة" في أفريقيا لا تزال حاضرة خلافًا لما أعلنه الرئيس هولاند أنّ سياسة "فرنسا- أفريقيا" ذات الأبعاد الاستعمارية هي من الماضي[14].
 * تشيع كتابة الاسم "طوارق" في عدد من الدول العربية، ويُكتب في أخرى "توارق"، وبالبحث في أصل الكلمة، تشير المراجع إلى أنها التسمية التي أطلقها العرب على شعب أمازيغ الصحراء الكبرى من دون أن تحدّد هذه المراجع مصدر التسمية بصورةٍ قطعيّة، إذ هناك روايتان منتشرتان؛ إحداهما تقول إنّ التسمية تحريف لعبارة "توارك" - أي المتروكون أو التاركون - باللغة العربية، والثانية تشير إلى ارتباط التسمية بمدينة "تارقة" (تعني باللغة الأمازيغية: الساقية) في منطقة "فزّان" في جنوب ليبيا التي يُعتقد أنّ الطوارق ينحدرون منها.. ويجدر هنا أن نذكر أنّ "الطوارق" يسمّون أنفسهم "كَلْ تاماشاك" (أو "من يتكلّمون "تماشاك" وهي النطق الطوارقي لاسم لغة "تمازيغت" أي الأمازيغية).
[1] "The Poorest Countries in the World", Global Finance, viewed 20/1/2013
http://www.gfmag.com/tools/global-database/economic-data/12147-the-poorest-countries-in-the-world.html#axzz2J0R95G6Q
يعيش نحو نصف عدد السكّان تحت عتبة الفقر (أقلّ من 1.5 دولار في اليوم) ويبلغ دخل الفرد السنوي من الناتج الإجمالي المحلي نحو 1117 دولار (المرتبة 213 عالميًّا).
[2] مع اختلاف التقديرات من مرجع إلى آخر، إلا أنّ الثابت أنّ أكبر المجموعات الإثنية في مالي عددًا هي "الماندينغ" (نحو النصف. وتضمّ قبائل وإثنيات فرعية مثل "البامبارا" و"المالنكي" و"السنونكيين") والتي تحتكر السلطة السياسية منذ الاستقلال، وبعدها "الفولان"، وهناك عدد كبير آخر من الأعراق مثل "السونغاي" و"الونينكيين" و"البوبو" و"المينيوناكا"، في حين تُجمع التقديرات على أنّ الطوارق الأمازيغ مضافًا إليهم العرب ليسوا سوى أقلّية (10% على أكثر تقدير) مثل الكثير من الأقلّيات في مالي.
[3] André Bourgeot, "Identité Touarègue: De l'Aristocratie à la Révolution", Études rurales, no. 120 (Oct. - Dec., 1990), p. 146.
[4] "أنصار الدين" حركة انفصالية طوارقية ذات نهج ديني سلفي، أسّسها إياد آغ غالي وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل الإيفوغاس الطوارقية، وكان قائد التمرّد الطوارقي في مالي في عام 1990، ولم يُعرف عنه حينها أيّ توجّهٍ إسلامي بل كان أقرب إلى الفكر اليساري القومي، وشارك في حركات التمرّد سنوات 1995 و1996 و2006. وبعد اتفاقية مع الحكومة المالية أنهت التمرد، عُيّن آغ غالي قنصلًا لمالي في جدّة في السعودية، وعاد إلى بلاده بعد ذلك وجمع حوله الكثير من الأنصار من قبيلته ومن أبناء الطوارق ممّن تشبّعوا بالفكر الجهادي بعد أن أعلن تبنّيه النهج السلفي.
[5] القرار رقم 2056 بشأن تعزيز الأمن في غرب أفريقيا، وشمل عدّة فقرات عن الوضع في مالي (5 تمّوز / يوليو 2012)، والقرار رقم 2071 بشأن مالي (12 تشرين الأوّل / أكتوبر 2012)، والقرار رقم 2085 بشأن مالي (20 كانون الأوّل / ديسمبر 2012).
[6] نفّذت الطائرات الفرنسية أولى عمليات قصف ضدّ المجموعات الإسلامية المتطرّفة التي كانت بصدد الزحف نحو جنوب مالي في 11 كانون الثاني / يناير 2013، وأرسلت بعد ذلك قوّات برّية تعدادها 2500 جنديّ شاركت معها وحدات الجيش المالي وقوّات من دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا وصل عددها إلى 3000 جنديّ.
[7] أطلق رئيس كوت ديفوار الأول، فليكس هوفوي-بوانيي في عام 1955 تعبير "فرنسا- أفريقيا"بمعنى إيجابي، في تعبيره عن رغبة بعض القادة الأفارقة في الحفاظ على نوعٍ متميّز من العلاقات بين بلدانهم والمستعمر السابق فرنسا أثناء نقاش كان قائمًا بشأن مقترح فرنسا لمستعمراتها الأفريقية (جنوب الصحراء) بالاستفتاء على الاستقلال أو الحصول على الحكم الذاتي ضمن السيادة الفرنسيّة. واعتمد فرنسوا غزافييه فيرشاف هذا المصطلح في كتابٍ له صدر في عام 1998 لتوصيف السياسة المريبة لفرنسا في أفريقيا والقائمة على دعم الدكتاتوريات والاستعانة بالمرتزقة لتنفيذ الانقلابات والاغتيالات السياسية. انظر:
François-Xavier Verschave, La Françafrique : Le Plus Long Scandale de la République (Paris : Éditions Stock, 1998).
[8] على الرغم من أنّ البعض يدّعي أنّ مالي قد تكون لها احتياطيات كبيرة من النفط والغاز في ظلّ تواتر معلومات عن نتائج جيّدة لعمليات الاستكشاف التي تقوم بها شركات توتال الفرنسية وإيني الإيطالية وسونطراك الجزائرية.
انظر:
Tarik Ramadan, "Le Mali, la France et les Extrémistes", Tarik Ramdan's blog, 17/1/2013, viewed 6/2/2013 http://www.tariqramadan.com/spip.php?article12693&lang=fr
[9] توفّر هذه المناجم 50% من حاجات محطّات فرنسا النووية.
[10] بدأ هذا التوجّه منذ بداية الألفية الجديدة ومع إقرار الكونغرس "قانون التنمية والفرص في أفريقيا"(African Growth and Opportunity Act) سنة 2000، وتبعه بعد ذلك وضع إستراتيجية أميركية تجاه أفريقيا في أعقاب هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 للولايات المتحدة الأميركية قاعدة عسكرية كبيرة في جيبوتي (يوجد فيها نحو 2000 جندي)، وحصلت على موافقة العديد من الدول الأفريقية كي تستخدم القوّات الأميركية موانئها ومطاراتها.
انظر تصريحات قائد القوّات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" الجنرال كارتر هام عن توسّع الوجود الأميركي في أفريقيا:
Luis Ramirez, "US Military Expands Presence in Africa", Voice Of America, 25/6/2012 viewed 20/1/2013 http://www.voanews.com/content/us-military-africa/1249035.html
[11] أجمعت القوى والنخب السياسية الفرنسية بيمينها ويسارها على الوقوف جبهة واحدة وراء الرئيس فرنسوا هولاند في القرار الذي اتّخذه بإرسال القوّات الفرنسية إلى مالي، ولم يسمع صوت معارض لهذا التدخّل باستثناء صوت النائب في الجمعية الوطنية الفرنسيّة وأحد أقطاب تيّار الأيكولوجيين، نوال مامير، الذي رأى أنّ التدخّل هو استمرار لسياسة فرنسا- أفريقيا ذات الخلفية الاستعمارية.
يمكن العودة إلى تصريحات نوال مامير لإذاعة "فرانس بلو" على الرابط:
http://www.francebleu.fr/politique/noel-mamere-contre-l-intervention-au-mali-255347
[12] Pierre Avril, "Mali : Moscou Promet une Aide Militaire à la France", Le Figaro (France), 18/1/2013, viewed 25/1/2013 http://www.lefigaro.fr/international/mali-moscou-promet-une-aide-militaire-a-la-france.php.
[13] "Support grows for U.N. force in Mali", Reuters, 5/2/2013, viewed 7/2/2013 http://www.reuters.com/article/2013/02/05/us-mali-talks-idUSBRE91414U20130205
[14] أعلن فرنسوا هولاند في خطابٍ ألقاه خلال زيارته السينغال في تشرين الأوّل / أكتوبر 2012 أنّ زمن سياسة "فرنسا المهيمنة على القارّة الأفريقية" (فرنسا- أفريقيا) قد ولّى.
"François Hollande à Dakar : ‘Le temps de la Françafrique est révolu' ", Le Monde, 12/10/2012, viewed 20/1/2013 http://www.lemonde.fr/afrique/article/2012/10/12/hollande-exprime-sa-grande-confiance-dans-le-senegal-et-l-afrique_1774886_3212.html
 
 

المصدر: مصادر مختلفة

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,535,341

عدد الزوار: 6,953,937

المتواجدون الآن: 63