خواطر إسلامية مسيحية من لبنان والعالم Iهـل نـستـطـيـع الـعـيـش مـعـاً؟

تاريخ الإضافة الجمعة 27 نيسان 2012 - 7:08 ص    عدد الزيارات 851    التعليقات 0

        

 

خواطر إسلامية مسيحية من لبنان والعالم Iهـل نـستـطـيـع الـعـيـش مـعـاً؟
ميشال اده
كيف يمكن لغير المسلمين ان يعيشوا مع المسلمين والاسلام وكيف للمسلمين من جهتهم ان يعيشوا مع غير المسلمين في المجتمع الواحد، واستطراداً في العالم المتسارع الخطى أكثر فأكثر الى التوحّد، بل الى المزيد فالمزيد منه؟
كيف يمكن التعايش بأمن وسلام واحترام مع التعدّدية التي يتّصف بها عالمنا؟ كيف يمكن أن نحوّل هذه التعددية من ذريعة للتنافر والتناحر والتصادم الى دعوة للتواصل والتكامل، الى مصدر غنى للجميع من دون استثناء؟
في الماضي غير البعيد، قبل مئة سنة ونيّف من اليوم، ما كان عدد المسلمين في العالم ليتخطّى المئة مليون أو المئة والعشرين مليون نسمة. فمصر، على سبيل المثال، كانت تعدّ ستة ملايين في مطالع حكم الملك فاروق العام 1936. ومع الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1954 أصبحت سبعة عشر مليوناً. أمّا مصر اليوم فتزيد عن ثلاثة وثمانين مليوناً. تركيا التي كان تعداد سكانها تسعة ملايين فقط في عهد مصطفى كمال أتاتورك، تبلغ اليوم أكثر من ثمانين مليوناً. وإيران التي كانت خمسة ملايين، هي اليوم على أبواب تخطّي الثمانين مليوناً. الجزائر التي كانت تعدّ في العام 1962 ستة ملايين مسلم، هي اليوم تفوق الخمسة والثلاثين مليوناً. وفي الباكستان وأندونيسيا وبنغلادش وغيرها وغيرها، فإنّ المسلمين الذين لم يتجاوز عددهم قبل مئة سنة المئة والعشرين مليوناً كما أسلفت، بات عددهم اليوم يناهز ملياراً وثلاثمئة مليون في العالم. ولسوف يتخطّى تعدادهم بعد عشرين سنة، المليارين إذا ما استمرّ معدّل ارتفاع العدد السنوي على ما هو عليه.
أمّا في المقابل، وفي الفترة الزمنية ذاتها، فإنّ بلدان أوروبا وفي الغرب بعامة، تشهد مجتمعاتها التي كانت مسيحية صرفاً، تراجعاً ديموغرافياً هائلاً بفعل انخفاض معدّل الإنجاب. ناهيك عن تزايد موجة العزوف العام عن الزواج ذاته، وعن تأسيس العائلة. كما أنّ المسيحية نفسها، بما هي إيمان ديني وممارسة لشعائره، تشهد ضموراً متزايداً وتحلّلاً شبه عام من طقوس العبادة. ففي أوروبا كلّها، على سبيل المثال، يتناقص عدد المسيحيين الذين لا يزالون يقبلون على الصلاة بالكنيسة، ويصومون باستمرار. حتى على هذا الصعيد الروحاني التعبّدي، تشكو المجتمعات التي كانت معتبرة مسيحية المزيد من التخلّي، في حين تشهد المجتمعات المسلمة، بالمقابل، ظاهرة متجدّدة من التشدّد في التمسّك بالممارسة: شعائر، وطقوساً، ودساتير على مستوى أنظمة الحكم.
وَلْنَضْرِبْ، بالمجتمع الفرنسي الحالي مثلاً حياً على هذا التحوّل الجذري في هذه المعطيات وما يستتبعه وجوباً وتلازماً من تداعيات: ففي العام 1800، وقبل أن يصبح نابليون بونابرت امبراطوراً، كان عدد الفرنسيين اثنين وثلاثين مليوناً، وكلّهم مسيحيون كاثوليك. أمّا اليوم، أي بعد مئتين واثنتَيْ عشرة سنة، فعدد الفرنسيين جميعهم خمسة وستون مليوناً فقط. منهم، أصلاً، سبعة ملايين مسلم فرنسي تقريباً. ولكم أن تحسبوا الفارق الهائل بين نسبة ارتفاع عدد الفرنسيين خلال مئتي سنة، ونسبة الارتفاع التي شهدتها مصر خلال 75 سنة تقريباً!
هذا التراجع الديموغرافي الفرنسي هو، في الوقت ذاته، اتجاه عام سائد ينطبق على جميع بلدان الغرب، بفعل انهيار الخلية العائلية، وتراجع نسبة الإنجاب المستفحل باستمرار.
غير أنّ التراجع هذا، إنّما يرخي بثقل تداعياته السلبية على مجتمعات هذا الغرب وبلدانه، في وقت تحتاج فيه هذه البلدان الى المزيد من الأيدي العاملة. وهذا ليس فقط بمعنى العمل اليدوي وحسب، بل حتى بمعنى العمل الذهني كذلك، وإنْ بمستوياته الأولية وحتى العالية. فمن أين تأتي هذه العمالة، بصفتها حاجة ماسّة، على المستويين اليدوي والذهني؟
من البلدان الإسلامية بعامة: من شمال أفريقيا، ومن بلدان الشرق الأوسط والأدنى، ومن بلدان الشرق الأقصى، وكذلك من أفريقيا التي لا تزال نسبة الإنجاب فيها مرتفعة كذلك.
هذا عامل أساسي جداً في تفسير انتشار الإسلام المتزايد بصورة مطردة في جميع أرجاء العالم، بعدما كان محدود الانتشار ضمن مناطق محدّدة من العالم، قبل مئة من السنين. بل سيظلّ منحى هذا الانتشار منحىً تصاعدياً، لا سيما بالنظر للحاجة الموضوعية والمتزايدة إليه، بالنسبة للبلدان التي كانت متجانسة دينياً بالمعنى المسيحي.
في السابق الأبعد قليلاً، كانت بلدان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال من أكثر البلدان تصديراً لليد العاملة الكاثوليكية الى الأميركيتين والى أستراليا والى بعض بلدان الشرق الأقصى والى بلدان أوروبا الصناعية المتطوّرة بخاصة. أمّا اليوم، فلقد باتت إسبانيا ذاتها كما إيطاليا وغيرها، بحاجة الى أن تستورد الأيدي العاملة، من المسلمين تحديداً.
ربما يحسن الانتباه، هنا، الى أنّ هذا الحضور الإسلامي، عدداً وموقعاً وبما يخلّفه من تداعيات، ومن إشكاليات مجتمعية بخاصة، لا ينطوي بذاته، وبصورة مطلقة، على أي نزعة أو أي قصد مدروس مبيّت، الى نشر رسالة الإسلام بمعنى الفتوحات الجهادية الواجبة القديمة التي عفا عليها الزمن. فهذه الظاهرة المستجدّة إنّما هي واحد من التداعيات الموضوعية الناجمة عن مسار التطوّر في العالم، ولا سيما على أساس المفاعيل المرافقة لهذا التطوّر في سماته الأخيرة التي أعطيت تسمية العولمة، بما هي حركة موضوعية، بغضّ النظر هنا عن تقييم الإيجاب والسلب فيها. ولا يسع المرء هنا، إلاّ أن يلاحظ أنّ هذه الحاجة «الغربية»، للمسلمين إن جاز التعبير، إنّما هي، بمعنى أساسي من المعاني، حاجة للمجتمعات الإسلامية القائمة كذلك، نظراً لعدم قدرة أوضاعها الاقتصادية والتكنولوجية على استيعاب الفائض الديموغرافي المتزايد من الأيدي العاملة، وعلى تأمين مسلتزمات العيش الكافية لأبنائها هؤلاء.
ظاهرة الحضور الإسلامي في المجتمع الفرنسي، والألماني، والهولندي والإنكليزي والسكنديناڤي بعامة والسويسري وغيرها بدأت تُطرَح، بكونها مسألة مقلقة تثير الخوف والاضطرابات، وحتى الصدامات. وكلّها تؤشّر إلى عدم تمكّن هذه البلدان من التوصّل الى تحقيق اندماج مجتمعي تام للوافدين إليها من المسلمين، وهي المحتاجة إليهم. لم تتمكّن هذه البلدان فعلاً من حلّ المنازعات المتزايدة على أساس العيش المواطني السليم الواحد مع المختلفين عن مواطنيها الأصليين، من حيث الدين والإتنية والثقافة... إنّها فشلت، حتى الآن، في الاستيعاب الإندماجي لهؤلاء الوافدين المسلمين.
ولْنَسْتَعِدْ مثال فرنسا ذاته، في هذا الشأن. فنتلمَّس أنّ تركيبتها المجتمعية الديموغرافية لم تعد متجانسة بالمعنى الذي كان سائداً من قبل. وعلى أساس هذا التبدّل، بدأت الديموقراطية العريقة فيها، تنتابها عوارض غير صحية وانتكاسات مقلقة، وجنوح متزايد لممارسة نوع من «الديموقراطية الانتقائية»، وذلك بحرمان المسلمين من سكانها وأهليها من التمتّع بكامل الحقوق التي يتمتّع بها إخوانهم في المواطنية من غير المسلمين، حتى وإن كانوا مواطنين يحملون الجنسية الفرنسية.
هذه الممارسة المستجدّة، المشوَّهة، المتناقضة جذرياً مع جوهر الديموقراطية، بدأت تتّخذ أبعاد أزمة حقيقية في المجتمع الفرنسي الذي ينضوي إليه، وبات من مكوّناته، سبعة ملايين مسلم. لكنّ هؤلاء المواطنين المسلمين الفرنسييين، حاملي الجنسية الفرنسية، لا ينعمون بحضور فعلي يتناسب وحجمهم: لا في الإدارة العامة، ولا في قيادة الجيش، ولا في عداد محافظي وحكام المدن الكبرى والمقاطعات، باستثناء تعيين وزيرتين أو ثلاث في الحكومة الفرنسية الأولى في ظلّ ولاية الرئيس ساركوزي، ووزيرة واحدة في حكومته الثانية. إنّه على كلّ حال، أمر يحصل للمرّة الأولى منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وإنّه لمعروف، من ناحية أخرى، أنّ الجيش الفرنسي قد ضمّ في صفوفه جزائريين مسلمين حاربوا دفاعاً عن فرنسا في العام 1870 ضد بروسيا، وأنّ النصب التذكاري القائم في ساحة تروكاديرو في باريس، تخليداً لشهداء الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى، يتكوّن من خمسة جنود، اثنان منهم مسلمان. وإنّ أجيالاً من الفرنسيين المسلمين قَضَوْا من أجل فرنسا في حروبها الاستعمارية ما بين الحربين العالميتين، والى جانب الجنرال ديغول ضد الاحتلال النازي وحكومة فيشي، ثم في حرب فرنسا في الهند الصينية وحتى أثناء حرب الجزائر (الحركيون، harkis) وفي كل العمليات الحربية اللاحقة وحتى أيامنا هذه.
مقابل ذلك، ثمّة مفارقة فظّة تتمثّل بالحظوة التي تسبغ على اليهود الذين وفدوا من الاتحاد السوفياتي أو من بولونيا وغيرها. فهم تمتّعوا، فور وصولهم، ويتمتّعون، بكامل حقوق المواطنية الفرنسية، سياسياً وعسكرياً وإدارياً واقتصادياً وإعلامياً، وذلك في أبرز المواقع في جميع مجالات الحياة الفرنسية العامة.
فداحة هذا الخلل المجتمعي الذي بدأت تعاني منه الديموقراطية الفرنسية تتجلّى اليوم أيضاً بجنوح أوساط فرنسية الى القيام بحملة حقيقية شعارها - للأسف - تحميل الهوية الوطنية الفرنسية مضموناً شبه عنصري في مواجهة المسلمين والإسلام. ولا يكفي على الإطلاق التذرّع بالدمج، الخاطئ أصلاً، بين الإسلام والإرهاب لتبرير ذلك. وهل يعقل، مثالاً وليس حصراً، أن تُـجْعَلَ «ملحمات الذبح الحلال» واحدة من أبرز المسائل في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية اليوم؟
الاعتلال الحقيقي الذي باتت تعاني منه هذه الديموقراطية الفرنسية إنّما سببه الأعمق حرمان المجموعات الإسلامية التي تشكّل 10 في المئة من مواطني فرنسا، من كامل الحقوق السياسية. حرمانها من مشاركة سياسية حقيقية في مجتمعها. حرمانها من التمثيل السياسي الأساسي. وهذا حتى عندما يُعترف لها أحياناً ببعض من خصوصياتها الدينية والثقافية.
ما يعزّز هذا الواقع ويدفع به الى المزيد من التجذّر والتشدّد التعصّبي، مع الأسف، استطلاعٌ للرأي أُجري مؤخراً في فرنسا منذ سنة ونيّف، وأظهر أنّ 41 في المئة من الفرنسيين يرفضون بناء مساجد جديدة في فرنسا.
إنّ العجز الفرنسي عن تحقيق الاندماج المجتمعي بين المواطنين، بدأ يتحوّل الى انقسام مجتمعي حادّ في عدد كبير من البلدان الأخرى. ومن أبرز مظاهره، النظرة العنصرية والتعامل العنصري مع المسلمين من مواطنيها.
ثمّة رفض متصاعد للمسلمين وللإسلام. وتتفاقم أشكال التعبير عنه بأصرح وبأعنف، في هولندا تحديداً، بل في سويسرا كذلك، التي صوّتت ضد المزيد من الترخيص لبناء المآذن، وفي انكلترا أيضاً، وفي إيطاليا، والسويد والدانمارك. وغيرها وغيرها.
ففي هولندا مثلاً، ثمّة حزب سياسي فاز مؤخراً بأكثر من 30٪ من أصوات الهولنديين على أساس برنامجه السياسي الانتخابي المكتفي بشعار واحد فقط لا غير: معاداة الإسلام والمسلمين.
ثمّة رفضٌ، نبذٌ، إلغاء للآخر المختلف في هذه البلدان العريقة التي كانت مضرب المثل بالديموقراطية. إذْ ما الذي يبقى من الديموقراطية عندما يجري التخلّي عن جوهرها وحقيقتها الأولى، ألا وهي الاعتراف بالحقّ في الاختلاف، واحترام الآخر وقبوله باختلافه؟
من الجهة المقابلة، وفي عدد مهم من البلدان العربية والإسلامية، يتعرّض المواطنون المسيحيون، بأرواحهم وأجسادهم وأماكن عبادتهم، وهم العريقون الأصلاء في تكوين هذه البلدان وتاريخها وتراثها وحضارتها، الى التهميش والنبذ والإقصاء والاضطهاد، والإكراه على الهجرة، والتهجير الصريح بالعنف والقتل المتعمّد. هذا ما يتتابع فصولاً دموية في العراق، وهذا ما يحصل في مصر وفي نيجيريا. وهذا ما تستعر نيرانه في ماليزيا التي يُحرَّم على المواطن المسيحي فيها أن ينطق بلفظة «الله»، بزعم أنّها حقّ للمسلم وحده، حصراً وحِكْراً! وفي أندونيسيا، وفي باكستان، وغيرها وغيرها. ثمّة نهج نظامي متنقّل، لإلغاء الآخر المسيحي، بدءاًً من إخضاعه وتدجينه وصولاً الى تصفية وجوده السياسي والجسدي.
إنّ ما يجري لا يؤدّي فقط الى فرض تحوّلات ديموغرافية قسرية تستهدف الوجود المسيحي المشرقي الأصيل. ولا يشكّل هذا مجرّد انتقام من عراقة الحضور المسيحي، ومن دوره الخصيب المستمرّ في بيئته الطبيعية. بل هو اغتيال استباقي لدور المواطنين المسيحيين، حاسم الفعل والتأثير لصالح تطوّر البلدان العربية والمنطقة، في خضمّ التنازع على مجتمعاتها، وداخل هذه المجتمعات، بين الانفتاح والإنغلاق. فالحضور المسيحي العريق في البلدان العربية بخاصة، كان حضوراً أساسياً في تطوّر الاجتماع العربي والثقافة والعلوم والحضارة العربية، وفي النهضة والحداثة العربية. وما كان لهذا الدور التاريخي الأصيل ليستوي ويستمرّ أصلاً في كنف الإسلام ذاته، ومعه، إلاّ لأنّه كان يعمل ويفعل في مواجهة نقيضين: الانعزال والذوبان؛ إذْ كلاهما شرّ قاتل. فالانعزال يلغي الرسالة، والذوبان يقضي على حامليها. وهو الأمر ذاته يصحّ على المسلمين العرب كما على المسيحيين العرب قاطبة.
مسألة المسيحية المشرقية تتجلّى بكونها جوهرياً معطى أساسياً من معطيات الصراع على مستقبل البلدان والمجتمعات العربية بخاصة. ذلك أنّ هذه المسيحية المشرقية لم يفتها أبداً الانتباه الى أنّ الكنيسة ليست من أجل ذاتها، بل عليها أن تكون حاضرة في بيئتها ومن أجل المجتمع كله، ولقضاياه المحورية الأساسية. ولقد قيّض لها فعلاً، بكنائسها المتعدّدة، أن تشهد على وديعة الإيمان الرسولي وسط مجتمع ديني كان تعدّدياً منذ أن ظهر الإسلام الحنيف في مطلع القرن السابع، ليصبح لاحقاً دين الأكثرية الغالبة لشعوب منطقة الشرق الأوسط.
المسيحيون كانوا حاضرين في النهضة العربية الحديثة التي أطلقوها، في النزعة التحرّرية التي أشعلوا شرارتها للوقوف ضد «التتريك» وفي وجه كل مستعمر. كانوا أوائل الحاضرين، مفكّرين وكتاباً مناضلين، في إطلاق الوعي والتنبيه الى مخاطر المشروع الصهيوني، وبصورة مباشرة فور انتهاء أعمال المؤتمر الصهيوني الأول في «بال» 1897. وعلى من يريد التأكّد من ذلك أن يراجع جريدة «الأهرام»، الجريدة الوحيدة في مصر التي أشرعت صفحتها الأولى آنذاك، بمبادرة من مؤسَّسيْها الأخوين اللبنانيين بشارة وسليم تقلا، لنقاش ديموقراطي حرّ تناول الوثائق والقرارات الصادرة عن ذلك المؤتمر. وحذّر فيه الكتّاب اللبنانيون المسيحيون في القاهرة آنذاك من عواقب المشروع الصهيوني ومخاطره المدمّرة على فلسطين وسائر البلدان العربية، مفتقدين يومها مشاركة إخوانهم من العرب الآخرين، مسلمين وغير مسلمين. لم يخض في ذلك النقاش يومها على صفحات «الأهرام» إلاّ كتاب لبنانيون مسيحيون مرموقون.
الوقائع التي سعيت الى إلقاء قليل من الضوء عليها، شرقاً وغرباً، من شأنها، على ما أحسب، أن تحمل على الاستنتاج الآتي:
المجتمعات الأوروبية والغربية قاطبة قد فقدت صراحة التجانس الديني والإتني الذي كانت تعرف به، والذي أُرْسِيَتْ الديموقراطيات العريقة فيه على أساس النظام الأكثري: الأكثرية تحكم، والأقلية المعارضة مرشحة، في ظل تناوب السلطة، لأن تصبح لاحقاً هي الأكثرية، وهكذا دواليك.
أمّا الوجه الآخر لهذا الاستنتاج فيؤشّر بالصراحة ذاتها، على أن نظام الديموقراطية الأكثري في المجتمعات غير المتجانسة دينياً، لا يعترف بالآخر، ولا يقيم أي وزن له، بل يهمّشه. والأقلّية فيه ستظلّ محكومة دائماً وأبداً بأن تبقى أقلية مهمّشة سياسياً وإدارياً ومجتمعياً في كل المجالات، غير معترف بها ولا بحضورها المادي والاجتماعي والسياسي في هذه المجتمعات.
هذا ما يولّد الشعور بالاضطهاد لدى هذه الأقليات، ويولّد التأزّمات المجتمعية، ويولّد الشعور، المستعر أكثر فأكثر، الى حدّ التعصّب العدائي بالهوية، وبالخصوصية المفرطة الى حدّ الانغلاق والانعزال المطبقيْـن، دينياً وثقافياً وتقاليدَ وأعرافاً، وطقوساً وشعائر، وتنابذاً مجتمعياً. كمثل رفع الصلاة أمام باحات المساجد في الشوارع العامة، كما مثل منع أو تقنين بناء الكنائس ومآذن المساجد، شرقاً وغرباً.
إنّ إقصاء الآخر هو ما يتسبّب به النظام الأكثري الذي لا يكون ديموقراطياً فعلاً إلا في مجتمع متجانس. وهذا، على الرغم من حاجة المجتمع المعين الى هذا الآخر. لكن النظام الأكثري، كما النظام الديكتاتوري الأحادي، يمنع على الآخر أن يكون ما هو عليه، بل يريده كما يشاؤه هو، أي يريده نسخة عنه، متخلياً عن ذاتيته ومكوّنات شخصيته.
أمّا في المجتمعات غير المتجانسة فلقد بات مطروحاً، لا سيما في الغرب نفسه، البحث عن حلول وعن صيغ أخرى.
بهذا المعنى الاستشرافي الثاقب النظر، ولمصلحة العالم الواحد ولجميع مكوّناته البشرية المختلفة، تُفهم تماماً مقاصد عبارة الحَبْر الأعظم يوحنا بولس الثاني: «لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة».
لماذا رأى إليه رسالة؟ هل لاستشراء الرشى والفساد والمحسوبيّة والزبائنية في لبنان، أو لقلة اكتراث اللبنانيين باحترام القوانين؟ طبعاً لا. ولا. ولا. لقد اعتبر قداسته لبنان رسالة، لأنّه بيئة عيش مشترك.
أَفلا تلزم الموضوعية هنا، وكذلك الحكمة، بالتبصّر المليّ الرصين لخصوصيتنا المجتمعية والكيانية، بدل جلدها واستسهال إصدار الأحكام بإعدامها، مرّة تلو أخرى، بدعوى أنّها، بما يُسَمّى «الطائفية السياسية»، هي علّة العلل في لبنان، ومصدر أزماته وحروبه الداخلية شبه الدورية؟
وقائعنا اللبنانية تظهر قيام نظامنا السياسي البرلماني على أساس مختلف فعلاً عمّا قامت عليه الديموقراطيات في بلدان الغرب ذات المجتمعات المتجانسة.
مثلما تظهر أيضاً، أنّ نظامنا السياسي البرلماني الديموقراطي إنّـما يقوم، من جهة أخرى، على أساس مختلف فعلاً كذلك عمّا تقوم عليه الأنظمة السياسية في البلدان العربية الشقيقة الأخرى قاطبة. فلبنان هو البلد العربي الذي لا ينصّ دستوره على دين معيّن للدولة فيه، لا الإسلام ولا المسيحية. وهو البلد العربي الذي رئيس الجمهورية، الماروني فيه حكماً كما ارتضى اللبنانيون، يحكم المسيحيين والمسلمين، ورئيس مجلس الوزراء كما رئيس مجلس النواب، وكلاهما مسلمان، يمارسان مسؤولياتهما في الحكم على المسيحيين والمسلمين معاً كذلك.
للبحث تتمة
وزير سابق ـ لبنان
[ القسم الأول من محاضرة ألقيت في «المركز الإسلامي» ـ عائشة بكار

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,100,540

عدد الزوار: 6,978,469

المتواجدون الآن: 70