«لغتنا الجميلة»

تاريخ الإضافة الأربعاء 11 شباط 2009 - 2:44 م    عدد الزيارات 1635    التعليقات 0

        

الاستخدام اليومي للّغة العربية يزداد سوءاً يوماً تلو يوم، ولا يبدو أنّ في الأفق حلاً لهذه المشكلة المستعصية. فقدت اللغة رهبتها وباتت عرضة للانتهاك المفضوح في معظم المرافق العامة، في الإذاعة كما على الشاشات الصغيرة، في رحلات السفر كما على الهاتف، في الندوات والمؤتمرات. يخاطب قائد الطائرة الركاب بالعربية فيرتكب أخطاء جمّة، أمّا بالإنكليزية فلا. يرفع المواطن السمّاعة فتجيب آلة التسجيل بعربية «مكسّرة»، وإذا أجابت بالانكليزية أو الفرنسية فاللغة سليمة. «تشعل» جهاز التلفزيون فتنهمر عليك الأخطاء من كل حدب وصوب، أخطاء في نشرات الأخبار، أخطاء في الترجمة، أخطاء في الشرائط التي تحتل أسفل الشاشة، ناهيك عن الأخطاء الفادحة التي تُرتكب في الخطب السياسية وغير السياسية التي تبثها الفضائيات. وقد لا تُفاجأ إذا تلقيت بيانات وجدتها حافلة بالأخطاء، كلّ أنواع الأخطاء، وكأن كاتبيها أو محرّريها لا علاقة لهم بلغتهم. لكنك تُفاجأ حتماً إذا تلقيت بياناً يحمل توقيع أحد اتحادات الكتّاب أو الصحافيين العرب، ووجدته مفعماً بالأخطاء. أما الملصقات والاعلانات التي تحتل الجدران والشوارع فلا تحصى أخطاؤها.
هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها لغوياًَ فقط. قد يحق للمرء أن يخطئ في اللغة مثلما يخطئ في أي أمر. هذا على المستوى الفردي أو الشخصي، أمّا أن يُعمّم الخطأ ويصبح رائجاً مثل أي شائعة، فهذا ما لا يمكن الإغضاء عنه. وهنا يجب الفصل بين ما يُسمّي خطأ شائعاً وخطأ لغوياً، فالخطأ الشائع يظل على هامش القاعدة ولو شذّ عنها، أما الخطأ اللغوي فهو خطأ في قلب اللغة وقواعدها.
انها ظاهرة تتعدّى تخوم الصرف والنحو وتدلّ على حالٍ من الانحطاط الثقافي. فاللغة، كأداة تواصل، يجب ألا تلقى مثل هذه اللامبالاة ومثل هذا الإهمال والتقاعس. قائد الطائرة يلم تمام الإلمام بقواعد القيادة الجوية، ولا يمكنه أن يخلّ بها، ومثله يلمّ التقنيون، في الإذاعة والتلفزيون، بأسرار هذين الجهازين الحديثين، وهلمّ جراً. إذاً هناك قواعد لا يمكن جهلها أو إهمالها وإلا وقعت الواقعة التي لا تُحمد عقباها.
ليس مسموحاً في الغرب ارتكاب مثل هذه الأخطاء في الحياة العامة وفي الاستخدام «الرسمي» أو «الوظيفي» اليومي للغة. هذا ما يمكن المرء أن يلاحظه بسهولة حيثما حلّ. وهذه الميزة لا ترجع الى كون الأجانب يكتبون كما يتكلّمون. لقد أسقط علماء اللغة، قديماً وحديثاً، هذه الذريعة التي يتمسك بها البعض لتبرير صعوبة اللغة العربية. وقال هؤلاء ان الكتابة أمر يختلف تماماً عن الكلام، وأن اللغة المكتوبة ليست بتاتاً اللغة التي يُحكى بها. وقد يتذرّع هذا البعض بصعوبة القواعد العربية وتعقّدها وقدامتها وعدم تحديثها... لكنّ ما فات هؤلاء أنّ اللغة العربية الراهنة ليست لغة الماضي. لقد شهدت لغتنا حالاً من التحديث الطبيعي بعيداً من أي افتعال أو تحدّ. لغة الصحافة العربية اليوم ليست البتة لغة العصور القديمة ولا حتى لغة عصر النهضة. واللغة الأدبية، في الرواية كما في الشعر والنقد، ليست لغة العصر العباسيّ ولا لغة المقامات... لقد تطوّرت اللغة وباتت مرآة العصر ودخلت اليها مفردات حديثة وأُسقطت منها مفردات فات زمنها، عطفاً على المترادفات التي ظلّت وقفاً على المعاجم. ما من أحد يستخدم اليوم كلمة الفدوكس أو الرئبال ليسمّي الأسد... والأمثلة في هذا القبيل كثيرة جداً.
وقع بين يديّ قبل أيام كتاب غاية في الطرافة، يبسّط القواعد العربية ويضعها بسهولة تامة في متناول القارئ العادي، مثل رجل الأعمال أو السياسي أو الطبيب والمهندس. ويكفي هذا القارئ أن يتصفحه حتى يلمّ بما يلزمه من قواعد ليستخدم العربية استخداماً سليماً. يقدّم الكتاب القواعد في طريقة سلسة، متحاشياً الزوائد التي تهمّ أهل الاختصاص، وهو ليس بجديد حتماً وقد سبقته كتب كثيرة في هذا الحقل.
لا تتطلب إذاً، معرفة القواعد الأولى أو البديهية الى الكثير من الجهد. يكفي أن يقرّر القارئ المضي في إجادة لغته الأم، وأن يمضي بجدّ في هذا الأمر، حتى يكتسبها ويتحاشى الوقوع في الأخطاء. لكنّ هذا القارئ الذي يظن أن اللغة العربية أصبحت في وادٍ آخر، كما يُقال، يؤثر العامية التي يتكلمها كل يوم، ويفضّل ألاّ يبذل جهداً في سبيل لغة أضحت، في نظره، لغة الكتب. وهذا خطأ فادح. فالتراجع في استخدام اللغة ليس تراجعاً لغوياً فقط، بل هو تراجع في الثقافة، والتراجع الثقافي يدل على أزمة في الهوية والذاكرة والوجدان العام.
تُرى هل من حلّ لهذه المشكلة المتفاقمة؟ ليس في الأفق ما يدلّ على أي حل، ما دامت الأخطاء تنتهب لغتنا العربية اليومية، وما دام القائمون على هذه القضية، على اختلاف مشاربهم، غير مبالين، مثلهم مثل الذين يرتكبون الأخطاء، وجميعهم يُمعنون، عن غير قصد، في قتل العربية، هذه التي اعتدنا على أن نسمّيها «لغتنا الجميلة».

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 154,041,387

عدد الزوار: 6,931,988

المتواجدون الآن: 90