موسم ازدهار العصبيات العربية والطريق المسدود..

تاريخ الإضافة الأحد 21 كانون الثاني 2018 - 8:11 ص    عدد الزيارات 1711    التعليقات 0

        

موسم ازدهار العصبيات العربية والطريق المسدود..

الحياة..أحمد جابر ... «صدام العصبيات العربية»، كتاب لفردريك معتوق (منشورات منتدى المعارف - بيروت)، أراد من خلاله الدخول في معترك سجالي «مسكوت عنه» بدعوى عدم التعرض لموضوع العصبية لارتباطها بالشأن الديني والمذهبي، أو بدافع الاستخفاف بالمفهوم وتجاهله سوسيو– معرفياً. موقفان أتاحا للعصبية حرية التحرك والانتشار، وساهما في مفاقمة العجز عن تفسير ما يجري على أرض الواقع، وإذا اعتبر بعض الكتاب والمثقفين العرب أن العصبية «مرض لبناني» خاص، ذهب فردريك معتوق في متابعة المفهوم، نظرياً وواقعياً، إلى البحث الواسع والخلاصات الواضحة، نظرياً وعلى أرض الواقع أيضاً، حيث ظهر وبلا التباس، أن العصبية مرض عربي عام، وأنها استوطنت الديار الغربية، مثلما استوطنت وما زالت، الديار العربية. لقد خاض المفكر العربي ابن خلدون غمار العصبية وراقب معانيها وحالاتها، ونتائجها وتعبيراتها، انطلاقاً من واقعة المعيش في الأندلس، عربياً، ودخل على خط المتابعة الفيلسوف الألماني هيغل، من باب السياسة والدستور الألماني وخواتيم الحروب الدينية التي عصفت بأوروبا، وبألمانيا بخاصة، على مدى ثلاثين من الأعوام. الالتقاء بين المفكرين، على رغم تباعد عصريهما، شكل استكمالاً لبناء الجسر المعرفي المتصل بين مظاهر العصبية وتجسدها في مجتمعين مختلفين، ومدّ رأس الجسر هذا إلى أصل النشأة العصبية التي بدأ بها ابن خلدون من العصبة، أي من التجمع الذي ارتدى شكلاً أمنياً في البداية، ثم ارتدى مع العصبية طابعاً اجتماعياً وسياسياً. إعادة التطور «العصباني» إلى الفعل الإنساني، وجعل الفرد والمجموع مسؤولاً عن ظاهرة «مقدسة»، ينزع «الطبيعانية» عن العصبية، ويعيدها إلى دائرة المسؤولية الاجتماعية العامة، إذ ضمن الدائرة يُقرأ الأصل وتشعباته وفروعه، وضمنها أيضاً يقرأ الفعل والرد عليه، وفي سياق فهم النشأة العصبانية الأصلي، تفهم السياقات الفرعية في الأزمنة التابعة لزمن النشأة الأصلي. تأسيساً على ذلك، أمكن للكاتب أن يقول إن العصبية «التي تكون في الالتحام بالنسب أو ما في معناه» كما عرّفها ابن خلدون، هذه العصبية ما زالت راهنة ومعيشة عربياً، وأن العصبية كرابطة دين ومذهب، ما زالت معاصرة وتقوم المأسسة السلطوية والاجتماعية التي تتولى أمور اليوميات العربية، بتنفيذ ذات الوظيفة التي أنيطت بالعصبية عند مأسستها الأولى، على أسس رابطة الدم... وضمن إطار العشيرة والقبيلة، ثم في إطار الدين والمذهب، وفي أروقة «المُلْك»، وفي ظل سيوف السلطان. مثلث «النعرة والتذامر والاستماتة» الذي هو مثلث عصباني، تغذى لاحقاً بنداء الدعوة الدينية، فهذه غذّت دولة العصبية اللاحقة، و «زادتها قوة على قوة»، وبعد أن كانت قوة العصبية في عددها، تغيرت «معادلة الغُلْب» التي أرساها ابن خلدون بدخول العامل الديني عليها، بحيث بات التمييز ضرورياً بين القوة القتالية التي يوفرها العدد كمفهوم كمّي، وبين الطاقة القتالية التي يوفرها العامل الديني كمفهوم نوعي. إذن من رابطة الدم إلى رابطة الدين، مسيرة متصلة لا انقطاع فيها في سعي العصبية إلى التمكين لسطوتها وسلطتها، أي السعي إلى تأمين مصالحها في «المغالبة» و «في الممانعة»، في الوصول إلى السلطة وفي الدفاع عنها، من خلال استخدام كل عناصر التوظيف الدينية والدنيوية. عند هذا المنعطف الخطر، جرى «تعصيب الدين»، الذي بدا أنه قد طوى صفحة العصبية الخاصة، بقوة دعوته الروحية العامة، لكن الواقع تكشّف عن مرونة العصبية ومناورتها الواسعة، وعن كمونها ضمن ظروف محددة، لتعود فتظهر في ظروف مناسبة أخرى، ممسكة بسلاح الدين والدنيا في آنٍ معاً. الخلاصة الهامة التي يشير إليها فردريك معتوق أن الدعوة الدينية لا تلغي العصبية. في أساس انغلاق العصبية الأصلية على الانفتاح، وعلى لقاء الآخر، تكمن النزعة العدائية والإلغائية التي تختزلها كل عصبية وتعتبرها شرطاً من شروط وجودها. صناعة العدو سلوك «عصباني» أصيل، ودخول الصناعة إلى ميدان الدين والمذهب يضيف إلى «المواد الأولية» للصناعات العصبية، ولا يغير من طبيعتها تغييراً جوهرياً. في هذا السياق يورد الكاتب أفكاراً لافتة وهامة تحتاج إلى إغناء وإضافة وتطوير. من هذه الأفكار، أن العبادات الوثنية لم تكن عدائية بعضها حيال بعض، وأنها كانت قادرة على التعايش والتواصل والمساكنة، وأن السعي إلى طرد الآخر ومحو ثقافته، رافق الدعوات الدينية السماوية، كان ذلك مع اليهودية القلقة، التي صنّفها الكاتب كأمّ للعصبيات، ومع المسيحية المضطهدة، التي ابتكرت درس مفهوم الشهادة في التبشير الديني ثم ارتضت المشاركة مع أرباب الملكوت الأرضي، لتردّ التهديد عن الملكوت السماوي، واستمر الأمر مع الإسلام المسيطر، الذي جعل السياسة رسالة اجتماعية مكملة لرسالته الروحية. لقد استتبع الدين الإسلامي السياسة بخلاف المسيحية واليهودية، فالسياسة مع الإسلام هي «القيّم» على أخلاقيات مجتمع الأديان. ولأن العصبية ليست شأناً عربياً كما جرت الإشارة سابقاً، فها هو الفيلسوف الألماني هيغل يدخل إلى العصبية من باب ديني، ومن خلال معاينته لدستور ألمانيا الذي جرى إقراره بعد معاهدة وستفاليا عام 1648. لقد اعترف الفيلسوف بالطاقة الروحية للدين، ولخص أهميته في نقاط ثلاث لتشمل المساحة الروحية للدين، حيث اللقاء مع معنى الوجود الأسمى، ونقطة الارتكاز الثابتة التي لا بديل لها من أي التزام سياسي أو اجتماعي آخر، والبُعد ما فوق اجتماعي للدين، حيث الالتحام الرمزي أقوى من الالتحام الاجتماعي. لقد أقام هيغل البناء الروحي غير الطبقي، فوق الخطاب الطبقي الموروث.

الطاقة الروحية للدين

لكن الاعتراف الهيغلي بالطاقة الروحية للدين، لم يثنه عن النظر في أحوال استخدام الدين والمذهب في الصراع الكاثوليكي– البروتستانتي. لقد لاحظ هيغل بنظرته الموضوعية، وبهاجسه الفلسفي، أن الانقسام اللاهوتي في ألمانيا، تحول انقساماً في النفوس والأرض والوطن، وبدلاً من أن يتم إبعاد انقسام الدين عن الدولة، جرى إدخال انقسام الدين في الدولة، وباتت هوية الألماني، دستورياً وقانونياً، هوية مذهبية. الخلاصة الهيغلية الهامة أن الدين المقسَّم يفقد عصمته الأخلاقية وقيمه السامية ليغرق في السياسة، وأن الأنظمة الثيوقراطية، أو التي تهتدي بمذهب ديني معين، عاجزة عن تأمين الحقوق المدنية لمواطنيها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبناءً عليه، يستحيل، بحسب هيغل، بناء دولة حديثة على أسس دينية مذهبية. من منطلقين مختلفين يصل إبن خلدون وهيغل إلى معاينة وشرح الظاهرة العصبية الواحدة، من مدخل البداوة أو من مدخل الدين، تجد العصبية ضالتها في وظيفتها، هذه الأخيرة التي خَبَت أو اضمحلت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وما لحق بها من تداعيات سياسية واجتماعية، واستمرت مقيمة عندنا، بل إنها ما زالت تجدّد نفسها بشهادة كل الحروب الأهلية التي اندلعت سابقاً، واستعرت نارها مجدداً على امتداد الرقعة العربية، بوسائل السياسة الباردة، وبأسلحة القتل المتعددة. لقد تعصرنت العصبية عربياً، لكن رمزيتها ورموزها ولغتها ودلالاتها ما زالت مشدودة إلى منبتها الأصلي. لنلاحظ مع الكاتب أن صاحب الشوكة في المجتمع العصبي، أي صاحب القرار، ما زال رمزاً كما كان، فلغته ما زالت لغة الجزم، وكلامه صحيح، وعلى المستمع التنفيذ. واللغة الجازمة مباشرة، فيها الإيحاء والأمر المباشر، وفيها المشهدية غير المكتوبة، وتوصل رسالة عباءة الإيواء، فالجمهور العصبي يحتاج إلى حضن يؤويه، ومن خلال اللغة والتجمع العصباني تتكرس أيقونة الزعامة بإشاراته الجسدية وبدلالة تسمياتها المتعددة، هنا للزعيم أسماء، وللعامة اسم واحد: الجمهور، أو الرعية، في مقابل الزعيم والشيخ والبيك والسيد وأمير الجماعة المذهبية... هل نستطيع أن نجد زعيم الأمس، على منبر زعيم اليوم؟ لعلنا نقع على «الزعامة» ذاتها، وعلى الزعيم ذاته، الذي هو التجسيد الحيّ للعصبة، وهو الرأس والجسم معاً: رأس تقريري في جسم تنفيذي.

تجمعات الماضي

المهرجانية السياسية تلعب دورها الذي كان لها في تجمعات الماضي. هنا الشعور باللحمة وبالقوة، وهنا ضرورة شد العصب وإدامة حالة الاستنفار، هنا الـ «نحن»، وكل ما يقع خارج حدودها الجغرافية، وخارج حدودها التقليدية، وخارج هويتها الدينية أو المذهبية أو إجماعها السياسي..، هو الآخر الذي تناصبه العصبة التوجس والخصومة والعداء، وهو موضوع «تغلبها» ووجهة هيمنتها لتأمين تفوقها العصباني، ولتأكيد سلطتها الدنيوية، ورفعة منبتها الاجتماعي، وتمايز اعتقادها الما فوق الوجودي المادي. ميدانياً، وبعد رحلة الحفر في المفاهيم ومن ثم استعراض خلاصاتها، يفرد فردريك معتوق فصلاً لبحث الباحث الفرنسي ميشال سورا، وهو عبارة عن متابعة ميدانية لأوضاع حي باب التبانة في مدينة طرابلس اللبنانية، مثلما يتحدث عن أرابسك العصبيات اللبنانية بعد بحث نوعي ميداني خاص بالكاتب، يقوم على مقابلات معمقة في أربعة أوساط اجتماعية لبنانية محددة هي: الوسط الماروني والوسط الدرزي والوسط السني والوسط الشيعي، أوساط أربعة ترتبط بعصبيات بعينها عاشت على وقعها إبان الحرب اللبنانية (1975-1989)، عسكرياً وسياسياً. في البحثين، يفيدنا الكاتبان أن مظاهر العصبية الأولى مقيمة في العصر الراهن، لجهة موقع صاحب الشوكة، وطريقة التعبير، أي اللغة، ومضمون وهدف التجمع، وصناعة العدد، فهذا الأخير واجب الحضور لتبرير وجود العصبة التي إن هي أزالته زالت معه. لقد كان لافتاً الحديث عن حرب مستحيلة، إذ لا ضربات قاضية في النزاعات المذهبية، والنزاع بين حيين طرابلسيين كما في سائر المناطق اللبنانية، لا ينتهي بالغُلْب القَبَلي، العسكري والسياسي على حدٍّ سواء، بل بالتغلُّب السياسي على الخصم ضمن تغيير موازين القوى العامة. هذا على صعيد اللوحة العامة، أما على صعيد السؤال الفردي الذي يحيل إلى خلاصات عامة مشتركة، فالنتائج لافتة لجهة اشتراك جميع الأوساط التي اتجهت إليها الأسئلة نحو «التقوفص» على حد تعبير الكاتب، أسئلة فردريك معتوق حول: كيف يعرف صاحب العصبية نفسه، وفي أي دائرة يعيش، وكيف يعمل ويتعامل مع الآخرين، وما دور التهجير وأخبار التهجير في ما هو عليه، وبمن يقتدي، وماذا تعني له الدولة؟ لقد تقاربت الأجوبة وتشابهت، في تمييز الذات، وفي الفخر بها، وفي إعلاء شأن المسألة الروحية، وفي إبداء التعاطف الإنساني مع الآخر، وفي الاحتفاظ بالحذر منه في الوقت ذاته، وفي ملامة الدولة.

* كاتب لبناني.

 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,618,844

عدد الزوار: 6,904,310

المتواجدون الآن: 97