القومية اللبنانية في تعقّلها للمعنيين والشهابيين.. دراسة مهمة حول التاريخ اللبناني...

تاريخ الإضافة الجمعة 1 كانون الأول 2017 - 7:19 ص    عدد الزيارات 2325    التعليقات 0

        

القومية اللبنانية في تعقّلها للمعنيين والشهابيين

الحياة...عبدالرحيم أبو حسين .. * أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية ببيروت

هنا الحلقة الأخيرة من الدراسة المهمة حول التاريخ اللبناني وقراءته وتأويله:

يقول بولس نجيم إن لبنان الكبير هو ببساطة عودة إلى لبنان فخرالدين المعني: أسّس فخرالدين دولة قوية وجيدة التنظيم، مركزها لبنان، لم تكن ولاية تركية، وإنما دولة لها حياتها الخاصة، تشبه الدول المتحضرة في أوروبا الغربية أكثر من ولاية من ولايات الباب العالي. وقد نعمت تحت قيادة حاكم مطلق متنور بعظمة وبهاء النهضة الإيطالية.

وعن فخرالدين هذا يقول نجيم في موضع آخر:

«لا يختلف اثنان في عبقريته. وقد ترك آثاراً خالدة. وهي أولاً وقبل أي أمر آخر، تتجلى في البحبوحة الاقتصادية في بيروت ولبنان، وهي من صنع يديه وتضع بيروت ولبنان اليوم في طليعة بلدان المشرق. ثانياً، صنع وحدة لبنان السياسية، بل صنع دولة لبنان، التي تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في بلاد الشام، وفي أنحاء الشرق كافة. كانت دولة مزدهرة جذبت إليه الانتباه والنيات الحسنة حتى في أوروبا. لا شك في أنه فشل، لكنه بيّن الطريق للبنانيين، الدروز منهم والموارنة، الذين، في وحدتهم، أمّنوا الدفاع عن الاستقلال. لقد وطد هذه الوحدة بتقاليده المجيدة في الحكم. لقد أيقظ في كل سكان الجبل الوعي بوحدتهم الوطنية. وهو الذي أحلّهم في مكان الصدارة بين كل سكان بلاد الشام». بطبيعة الحال، لم يكن هنالك ما هو غير مألوف في أن يلتمس القوميون اللبنانيون سابقة تاريخية للبنانهم المرتجى، أو أن يتطلعوا خلفهم إلى زمن جميل، حقيقي أو مزعوم. فهذا شأن معظم الحركات القومية حيث تسمح لنفسها بهذا النوع من التمارين الفكرية. إلا أن الأمر العجيب في هذا العصر الذهبي المتخيل مارونياً هو أن بطل ذلك العصر كان درزياً. وقد حدث هذا بعد عقود قليلة فقط من الحرب الأهلية منتصف القرن التاسع عشر بين الموارنة والدروز، حيث فقد آلاف الموارنة والمسيحيون الآخرون حياتهم، واضطر عشرات الآلاف منهم إلى النزوح عن قرى آبائهم وأجدادهم. ولكن هل يمكن أن تكون أسطورة لبنان فخرالدين و «دولة لبنان» ذات منشأ أبعد زمناً من منتصف القرن التاسع عشر، أو بدايات القرن العشرين؟... حين نقرأ المصادر اللبنانية المارونية التي تعود إلى القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (وهي- تقريباً- كل المصادر المحلية التي بين أيدينا) نجد الدويهي يورد ما اقتبسه أدناه، وقد استعاد حيدر الشهابي ما أورده الدويهي حرفياً في القرن التاسع عشر:

يقول الدويهي عن فخرالدين ما يلي:

«وفي دولة الأمير فخرالدين، ارتفع رأس النصارى. عمّروا الكنائس، وركبوا الخيول بسروج ولفوا شاشات وكرور لبسوا طوامين وزنانير مسقطة ولبسوا القفاص والبندق المجوهرة، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان لكون غالب عسكره كانوا نصارى وكواخيه وخدامه موارنة». يجدر هنا إعادة تأكيد أن الموارنة كانوا أنصاراً شديدي الإخلاص لآل معن وخلفائهم آل شهاب. وقد كانت لكلتا السلالتين الحاكمتين صلات وثيقة مع القوى الأوروبية الكاثوليكية والكنيسة الكاثوليكية، حيث كانت هذه تهتم شديد الاهتمام بأمر الموارنة. كما أن كلتي السلالتين الحاكمتين، آل معن وآل شهاب، أظهرتا العطف والرعاية الفائقة تجاههم. أضف إلى ذلك، أن الموارنة كانوا، في واقع الأمر، مكلفين من قبل البابوية منذ بداية القرن السابع عشر، بمساندة المعنيين والتوجه إليهم طلباً للحماية. ولذا، فإن الدويهي لا يجد أي غضاضة لدى حديثه عن السلطة المحلية لفخرالدين في أن يصفها بـ «الدولة». ربما لا يجدر بنا القفز إلى استنتاجات بهذه الأهمية بناء على إشارة مفردة، قد تكون وردت عابرةً من دون اكتراث، لدولة فخرالدين. لكن الدويهي نفسه يقول لاحقاً، في «تاريخ الأزمنة»، لدى ذكر وفاة المعني الأخير: «وفي الخامس عشر من أيلول (1697م) كانت وفاة الأمير أحمد بن معن، وفيه انقرضت دولة المعنية العادلية»، ويستعيد الشهابي في القرن التاسع عشر ما أورده الدويهي بصورة حرفية في القرن التاسع عشر. أصبح الموارنة الذين كانوا يتمتعون برعاية الإمارة المعنية سادة الإمارة الشهابية التي خلفتها. وهذا التطور لا يعود فقط إلى أن الأمراء الشهابيين تنصّروا في منتصف القرن الثامن عشر ودخلوا الكنيسة المارونية، لكن لأن الموارنة في ذلك الوقت كانت قد أصبحت لهم اليد العليا في إدارة واقتصاد الإمارة، هذا إضافة إلى تفوقهم السكاني. لذلك كان من الطبيعي، كما يقول الصليبي، أن يكون «بشير الثاني أميراً حاكماً وسليل أسرة من الأمراء الحكام» في نظرهم. بينما نظر الدروز إلى الشخص نفسه على أنه «مجرد موظف مالي في الدولة العثمانية الذي كان التزامه بجمع الضرائب يخضع للتجديد سنوياً». إن حقيقية الشرعية التاريخية للإمارة الشهابية مستمدة من الشرعية المعنية المفترضة قبلها. كان الدويهي، بالطبع، بريئاً من المشروع القومي الذي تقدم به نجيم. وكانت دولته المعنية أيضاً كياناً متواضعاً اذا ما قورن بلبنان الكبير الذي اعتقد نجيم بوجوده تاريخياً. لكن هذا الكيان، على تواضعه، أتاح للموارنة، كمسيحيين ليس لهم وضع الملة القائمة بذاتها، أفضل ما كان يمكن الحصول عليه في ظل الدولة العثمانية. وكان الدويهي، بصفته البطريركية، معنياً بأمن طائفته الدينية الذي اعتقد أنه سيكون مضموناً إذا واصل الشهابيون سياسة المعنيين في معاملة الموارنة. عاش الدويهي السنوات السبع الأولى من الإمارة الشهابية، وكان من المهم بالنسبة إليه نقل هذا الفهم للشرعية العثمانية والقبول به، وهو ما استطاع، عبر استعماله للتاريخ، إضفاءه على الإمارة المعنية والشهابية، وإلى غير الموارنة، وفي المقام الأول إلى الدروز والمسلمين في المناطق المجاورة. إذا ما حكمنا على الأمر وفق الرواية القومية اللبنانية المتداولة في الوقت الحاضر، نجد أن الدويهي نجح نجاحاً باهراً بالفعل. فبغض النظر عن كتاب الصليبي الأخير حول لبنان، وما سيق أعلاه من وجهة نظر بديلة عن آل معن، يبقى ما قال به الدويهي واحداً من الأفكار الأساسية في الأعمال الأكاديمية، كما في الكتب المدرسية.

الدويهي بين صناعة الأبطال وصنعة التاريخ

عبدالرحيم أبو حسين ... < يبقى أن نشير إلى معنيّ آخر، لم يكن له من الحفاوة والمجد، تاريخياً ما كان لفخر الدين الثاني إلا أنه لا يقل عنه أهمية. ذلك هو أحمد معن، حفيد أخ فخر الدين، وآخر زعيم معنيّ في جبال الشوف. تكمن أهميته في التاريخ اللبناني التقليدي في أنه جَسّرَ الفجوة بين السلالة المعنية، إذ كان آخر الذكور فيها، والسلالة الشهابية. والشهابيون أقرباؤه، أو ذريته من طريق الزواج. ذلك أنه من دون الرابطة التي يؤمنها، لن تكون للحكم الشهابي في جبل لبنان شرعية وراثية. وطبقاً للتقليد التاريخي ذاته، زَعم أن أحمد معن هو الذي وضع حداً نهائياً لآل علم الدين وهم المنافسون السياسيون الأبرز للمعنيين، والذين جرى العرف التاريخي على اعتبارهم قادة الفرع اليمني من الدروز الذي كان يقابل الفرع القيسي الذين كان المعنيون، ومن بعدهم الشهابيون، القادة المتصورين له. فيما عدا ذلك، يظهر أحمد معن في التاريخ اللبناني التقليدي، كما في الكتابات المعاصرة، كشخصية باهتة لا يضر ولا ينفع، وقد حصل من العثمانيين على التزام الشوف وكسروان، واحتفظ به لمدة ثلاثين عاماً من دون انقطاع حتى وفاته في 1697. وهي فترة طويلة لسلام متخيل، لم تشهد أي حادثة جديرة بالذكر في ما يتعلق بعلاقة الأمير مع العثمانيين، أو علاقته مع جيرانه. إلا أن الأبحاث اللاحقة المستندة إلى مواد الأرشيف العثمانية كشفت عن صورة مختلفة تماماً للرجل، فهو هنا يظهر على أنه شخص ماكر، بارع في الإفلات من المآزق، وقد حاول العثمانيون أن يلقوا القبض عليه ليقدموه إلى العدالة مراراً، ولكنهم فشلوا في ذلك. ويبدو أنه استغل انهماك العثمانيين في الحرب على الجبهة النمسوية من 1683 إلى 1699 ليقود تمرداً في مناطقه الدرزية، وليحرض على تمردات مماثلة في المناطق المجاورة. وعلى عكس عم أبيه وسلفه فخر الدين الثاني الذي أسره العثمانيون، وساقوه مكبلاً إلى اسطنبول حيث نُفذ فيه حكم الإعدام، نجح أحمد معن في النجاة من الاعتقال، ومات، أخيراً، على فراشه. وبموته انقرضت السلالة المعنية وانتقلت القيادة عبر النساء إلى الأقرباء بالمصاهرة، آل شهاب في وادي التيم. كان التاريخ التقليدي اللبناني يجهد لتبرير صراعات المعنيين مع الدولة عندما كان يضطر للإشارة إليها محاولاً أن يبرئهم من تهمة التمرد، وأن يصور التزامهم، الذي كان في معظم الأحيان ترتيباً موقتاً يخضع للتجديد سنوياً، على أنه منصب متوارث بل إمارة تستمد شرعيتها التاريخية من اعتراف مستمر وغير منقطع حصلت عليه من الدولة العثمانية، ومن الدول الإسلامية التي سبقتها. لهذا اعتبر الدويهي، في القرن السابع عشر، وتبعه في الاعتقاد كل من الشهابي وشدياق في القرن التاسع عشر، أن الهجوم العثماني على الشوف عام 1585 كان نتيجة اتهامات كاذبة قدمت ضد الأمير المعني في ذلك الوقت، الذي كان في الحقيقة من الرعايا الأبرياء المخلصين. كان الدويهي، كما يبدو، أول من أتى بهذا التفسير الملفق عن الهجوم العثماني على الشوف. كانت مشكلته أنه لم يكن يستطيع تجاهل الهجوم على الشوف الذي نتج منه مقتل قرقماز معن والد بطله فخر الدين. ولا بد أن هذا الهجوم كان رداً على بعض أعمال العصيان التي سبق تفصيلها. إلا أن الدويهي، وهو الصديق الحميم للمعنيين، لا يستطيع الإقرار بذلك. ولذا كان الخيار الوحيد المتاح تفسير الحادثة بطريقة أخرى، وهذا ما فعله. كذلك فإنه على رغم معرفة هؤلاء المؤرخين المصادرَ، واستخدامهم إياها، فإنهم يهملون أي إشارة للهجمات العثمانية ضد المعنيين، التي سبقت اجتياح عام 1585. بل إنهم يعيدون أسباب صدامات فخر الدين اللاحقة العديدة إلى العداء الذي يكنه بعض الولاة والقادة العثمانيين له، أو بسبب جشعهم، أو بسبب الخيانة ودسائس الغدر من الزعماء الحسودين في المناطق المجاورة. أما المؤرخون المحدثون الذين كتبوا من منطلق لبناني أو قومي عربي فلا يساورهم الشك، حيث يسمون أعمال فخر الدين انتفاضات لبنانية أو عربية ضد الاستبداد والطغيان العثمانيين. في عصر القوميات الذي بدأ يؤثر في لبنان في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ربما كانت القومية اللبنانية مختلفة عن غيرها من الحركات القومية في أمكنة أخرى من العالم الثالث، ذلك أنها لم تكن مجرد بنيان فكري فقط. فقد تمتع لبنان بضمانة دولية لحكم ذاتي، وبمؤسسات وطنية للحكم منذ 1861. وحيث إن مزايا الحكم الذاتي أصبحت واضحة للعيان فإنه ليس من المستغرب أن العديد من اللبنانيين بدأوا ينشطون في الدعوة إلى الانفصال الكامل عن الإمبراطورية العثمانية. إلا أنه كان هناك أكثر من رأي حول ما يجب أن يحدث وأي كيان سياسي سينشأ بعد التحرر من السيطرة العثمانية. فقد كان هنالك القوميون العرب الذين عملوا من أجل بلاد الشام العربية، أو الدولة العربية الواحدة الكبرى التي تشمل لبنان. كما وجد من يدعو إلى بلاد الشام الفرنسية، أو جبل لبنان المسيحي، أو لبنان الكبير، الذي يرتبط بعلاقات مميزة مع فرنسا، الخ... كانت الطائفة المارونية، من بين الطوائف اللبنانية العديدة في جبل لبنان، قد برزت في أعقاب الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر كطائفة متفوقة في العديد من النواحي، وبقيت الكنيسة المارونية المؤسسة الوحيدة العاملة التي تمتلك تنظيماً محكماً. وهكذا، عندما هزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تمكن البطريرك الماروني الياس الحويك من قيادة الفريق المنادي بلبنان الكبير ذي العلاقات المميزة مع فرنسا. وكان مشروع لبنان الكبير هذا فكرة طرحها قبل ذلك المثقف الماروني بولس نُجَيم في بدايات القرن العشرين. ما يثير الاهتمام وما يتصل بالبحث الحالي من هذا الطرح ليس ما أورده نجيم من حجج اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية لتبرير هذا المشروع (فقد تم التعبير عنها بأشكال مختلفة من جانب آخرين) ولكن، بالأحرى، مطالعته التاريخية.

نقد الأسطورة التي بُنيت عن فخر الدين الثاني

< نشر كمال الصّليبي في 1973 بحثاً بعنوان «سرّ البيت المعنيّ»، أثبت فيه في شكلّ منطقيّ مقنع اعتماداً على النّقوش، إضافة إلى المصادر المكتوبة، أنّ فخر الدّين الأوّل المفترض كان قد مات قبل عشر سنوات كاملة من فتح العثمانيّين بلاد الشّام، وأنّ البطريرك المارونيّ، المؤرّخ اسطفان الدّويهي (ت عام 1704) طمس ذكر الأمراء المعنيين الآخرين لمصلحة فرع معنيّ قدّم الرّعاية وخدمات كثيرة للكنيسة وللطائفة المارونيّة، وكان آخر أمراء هذا الفرع صديقاً وراعياً شخصيّاً للبطريرك الدّويهي.

من الواضح أنّ هذه الرّواية التي لا تعود إلى ما قبل القرن التّاسع عشر ما هي إلاّ محاولة من قبل مؤرّخين يعملون لدى السّلالة الشّهابيّة الحاكمة التي خلفت المعنيين، لتعزيز شرعيّة الإمارة الشّهابيّة التي كانت تواجه معارضة درزيّة متزايدة في عقودها الأخيرة. وهكذا حدث شرخ في هذه الرّواية القوميّة. الأمير المعنيّ الآخر الذي تقدمه هذه الرّواية كضحيّة للطغيان العثمانيّ هو قرقماز معن، الذي يعتقد أنّه والد الأمير المعنيّ المعروف بفخر الدّين الثّاني، والذي يفترض أنّه ابن فخر الدّين الأوّل. مات قرقماز هذا عام 1585 بينما كان هارباً تلاحقه القوات العثمانيّة التي تتوغّل في اتجاه معقله الحصين في جبال الشّوف. أما السّبب المزعوم الذي يقف خلف هذا العمل التأديبيّ العثمانيّ فهو الافتراءات الكاذبة التي قدّمت ضدّ قرقماز هذا في الشّوف من قبل خصومه السّياسيين، وتنسب إليه المسؤوليّة عن سرقة مزعومة للخزينة المصريّة بينما كانت تمرّ على الطّريق السّاحليّ في جون عكار بشمالي لبنان، الواقعة على مسافة بعيدة من الشّوف حيث مقر قرقماز معن. هذا ما تقوله الأبحاث التّاريخيّة الحديثة استناداً إلى رواية تعود إلى القرن السّابع عشر، أوردها البطريرك والمؤرّخ المارونيّ، وأعيد إنتاجها في كتابات تاريخيّة تعود إلى القرن التّاسع عشر. إلّا أنّ البحث التّاريخيّ اللاحق، المستند إلى المواد الأرشيفيّة العثمانيّة والمصادر التّاريخيّة المعاصرة لتلك الفترة، أثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ ما يلي:

أوّلاً، لم تحدث أيّ سرقة للخزينة المصريّة تلك السّنة، وقد سلّمت كاملة غير منقوصة إلى اسطنبول. ثانياً، كان لدى العثمانيّين كثير من الأسباب الأساسيّة الطويلة الأمد، التي تدعوهم لمعاقبة قرقماز ودروز آخرين، أهم من مجرّد حادثة سرقة. وأبرز الأسباب الدّور القيادي الذي لعبه قرقماز والدّروز إجمالاً في التمرّد المسلّح في القرن السّادس عشر. وجرت الإشارة مراراً إلى قرقماز معن خصوصاً بأنّه كبير المتمرّدين الدّروز، وأنّ فساده وأعماله الشّريرة تفوق كلّ شرور الآخرين مجتمعة.

من الواضح أن قرقماز لم يكن متفرّجاً بريئاً، أو ضحية التّآمر عليه، بل متمرّداً خطيراً. يضاف أنّه لا بدّ أنّ الدّور الخارجيّ، بل الأوروبيّ تحديداً، المتعاظم في التحريض على التمرّد في المناطق الدرزيّة، ومدّه للعناصر المحليّة بالأسلحة النّاريّة، أثار قلق العثمانيّين.

بوفاة قرقماز أصبح المسرح مهيئاً لتقديم البطل الوطنيّ اللبنانيّ بلا منازع: فخر الدين الثانيّ. كان اللبنان المفترض هو لبنان فخر الدين الذي عاد إليه دعاة الوطنية اللبنانية، واتخّذوه سابقة للوطن الذي يأملون بتأسيسه في القرن العشرين. وقد رسمت حدود لبنان المنوي تأسيسه على أساس أنّ تلك الأراضي كانت أراضي لبنان في عهده.

فخر الدّين هذا، كما تصوره الرّواية القومية اللبنانية والكتب المدرسية، «بطل لبنان الأوّل والمثل الأعلى للقائد الوطني الملهم المسئول الذي يجسد روح الأمة اللبنانية، وأمانيها السّامية»، والرواية تؤكد أيضاً على ما تقدمه كحقيقة تاريخية: «أنّه أوّل من سعى إلى تحقيق الكيان اللبناني والوحدة اللبنانية، وأوّل من ناضل في سبيل استقلال لبنان عن الدّولة العثمانيّة، وأوّل من عمل على تطوير البلاد وإدخال التجديد عليها في شتّى النّواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة». واستعان الكتّاب الوطنيون اللبنانيّون في رسمهم للصورة المثاليّة لفخر الدّين ببعض كتابات الرّحالة الأوروبيين والكتّاب والمستشرقين.

هكذا يكتب الأب أوجين روجيه: «كانت نفسه طامحة للمجد، وكانت شجاعته المتحفّزة تأبى عليه الاكتفاء بما كسبه أسلافه»، والأب هنري لامنس يرى أنّ الرجل كان «بمفاهيمه الجريئة والمغامرة أحياناً، متقدّما حقّاً على عصره». ويصفه مؤرّخ لبنانيّ محدث بما يلي: ما كان يتحلى به من قيم ومفاهيم أخلاقيّة هي أقرب إلى أخلاق الملوك منها إلى أخلاق العامة»، وكان «إداريّاً فذّاً وسياسيّاً قديراً، ذكيّاً نشيطاً حاد البصر والبصيرة». وكما أشير سابقاً، وكما يليق ببطل قوميّ، بُنيت شجرة نسب مُحكمة ومفصّلة للعائلة المعنيّة أصبح لفخر الدين بموجبها نسب عربيّ نبيل وعريق. كذلك، في ضوء تعدّديّة المجتمع اللبناني، وربما بسبب الدّور المارونيّ الراجح في لبنان الحديث، وما اشتهر عن العلاقات الوديّة بينه وبين الموارنة، والكنيسة الكاثوليكيّة عامّة، زعم البعض لفخر الدّين، بعد وفاته، تنشئة مارونيّة.

كان كمال الصليبي قد أخضع هذه الصّورة المثاليّة للرّجل للتمحيص قبل أن يبدأ استخدام الأرشيف العثمانيّ في دراسة التّاريخ اللبنانيّ بوقت طويل، وذلك بوضعه أمانته المهنية كمؤرّخ قبل مشاعره الوطنيّة التي لا شكّ فيها واستعمل، إضافة إلى المصادر «اللبنانية»، مصادر أخرى تتمتّع بمصداقيّة أكبر، خاصّة المصادر المعاصرة، بما فيها التي كتبت في دمشق. جاء ذلك في سياق سلسلة محاضرات نظّمتها جامعة الكسليك (التي تديرها الرهبانيّة المارونيّة) في موضوع «أبعاد القوميّة اللبنانيّة». والجامعة نفسها طبعت المحاضرات على شكل كتاب لاحقاً، وتضمّنت محاضرات مثل «أثر الإمام الأوزاعي في تكوين القوميّة اللبنانيّة». وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الإمام الأوزاعي كان فقيهاً سنياً من القرن الثّامن، عاش في بعلبك وانتقل إلى بيروت وتوفّي في ظاهرها، حيث مدفنه إلى اليوم.

فككّ الصّليبي قصّة فخر الدّين وأعادها إلى عناصرها الأساسيّة المكوّنة، وتوصّل إلى الاستنتاجات التّالية بعد مناقشة مستفيضة للرّوايات القوميّة ومصادرها: في قضية من هم المعنيون؟ رفض الرّواية التّقليديّة لأنّه «ليس هناك في التّواريخ ما يثبت صحّة هذه القصّة. بل هناك في القصّة ذاتها أخطاء تاريخيّة واضحة». تابع بعد ذلك مسألة وصول المعنيين إلى الشّوف، وأوضح أنّ بداية أمرهم هناك تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، وليس بدايات القرن الثاني عشر كما تؤكّد الرّواية التّقليدية. يعالج الصّليبي بعد ذلك قضيّة نشأة فخر الدّين في كنف عائلة من المشايخ المورانة، ويخلص إلى رفضها معتبراً إيّاها محاولة لاحقة لشرح العلاقة بينه وبين آل الخازن من مشايخ الموارنة. وفي هذا الجزء هناك العديد من القصص الجانبيّة التي رفضها أيضاً. وفي الختام يعالج مسألة الخطّة المفترضة لفخر الدين «لخلق كيان لبنانيّ موحّد، وهل نجح عن قصد أو غير قصد، في خلق مثل هذا الكيان؟»، وفي ذلك يتوصّل الصليبي إلى الخلاصات التّالية:

«فخر الدّين، إذن، لم يمدّ سيطرته فقط على المناطق اللبنانيّة، بل أيضاً على الجليل وفلسطين وشرق الأردن والداخل الشاميّ حتّى تدمر... والواضح أنّ الأمير، في توسّعه هذا، لم يطمح إطلاقاً إلى تحقيق مخطّط معيّن لجمع المناطق اللبنانيّة في دولة موحّدة...». كذلك، «كانت لفخر الدّين... مكانة خاصّة في المناطق اللبنانية مختلفة أساسيّاً عن المكانة التي كانت له في المناطق الأخرى. وذلك على رغم أنّه لم يع الفرق، على ما يبدو، ولم يفكّر يوماً بدمج المناطق الدّرزيّة والمارونيّة المختلفة، دون غيرها، في إمارة لبنانيّة موحدة».

يخلص الصّليبي في نهاية بحثه إلى أنّه: «ما أن ظهر هذا الكيان اللبنانيّ بوضوح في عهد الأمير بشير الشّهابيّ الثّانيّ حتّى أخذ اللبنانيون يبحثون عن تفسير تاريخيّ لهذا الكيان، فبرزت أسطورة فخر الدّين، الأمير الدّرزي الذي تربّى في بلاد الموارنة وقضى حياته في السعي البطوليّ الواعي إلى خلق وحدة لبنانيّة. وقد ابتدأت هذه الأسطورة صغيرة في أوّل الأمر، ثمّ نمت مع نمو لبنان حتى أصبح فخر الدّين في نظر اللبنانيين اليوم، رائد الاستقلال اللبنانيّ ورمز الوحدة».

بعد ذلك بوقت طويل، أثبتت الأبحاث المستندة إلى الأرشيف العثمانيّ استنتاجات الصليبي مع تعديلات طفيفة. فالوثائق العثمانيّة كما التّواريخ العثمانيّة والمصادر المحليّة المعاصرة، ترسم صورة لفخر الدّين هذا يبدو فيها كحاكم مقاطعة في بلاد الشام تأرجحت علاقته بالعثمانيّين بين صعود وهبوط، شأنّه شأن أقرانه المعاصرين له في المنطقة. ولم يحدث أن مُنح في أيّ وقت من الأوقات لقباً أو رتبة أعلى من رتبة أمير لواء لسنجقي صيدا- بيروت وصفد. كما لم يُشَر إليه مطلقاً خارج المصادر اللبنانيّة المذكورة آنفاً، كسلطان البرّ، لكنّه تمتّع بدعم خارجيّ كبير، حصل عليه من توسكانيا والبابويّة أساساً، وأحرز أيضاً دعماً داخلياً من الدروز وغيرهم، وهم الموارنة أساساً ممن طالبهم البابا صاحب السلطة الأخلاقيّة والروحيّة الأرفع أن يمنحوا هذا الأمير الدّرزي دعماً مطلقاً غير مشروط.

عاد الصّليبي إلى النّظر في هذه المسألة لاحقاً في سياق كتاب تفسيريّ لتاريخ لبنان، وكان قد أتيح له الاستفادة ممّا نشر حديثاً من دراسات استندت إلى المواد التي وفّرتها المصادر العثمانيّة، ليدقّق استنتاجاته حول فخر الدّين هذا، ويخلص إلى ما يلي:

في ظروف النّصف الأوّل للقرن السّابع عشر لم يكن هناك شيء غير عادي في سيرة فخر الدّين في جنوب لبنان. لقد كان زعيماً درزياً، أو شخصية بارزة، عيّنه العثمانيّون ليحكم سنجق بيروت وصيدا نيابةً عنهم، ثمّ بعدئذ سنجق صفد وأجزاء أخرى من بلاد الشّام. ولأنّه كان حادّ الذكاء ونشيطاً ومغامراً، فتح الموانئ البحريّة التي يسيطر عليها أمام التجارة الأوروبيّة، وطوّر إنتاج الحرير في مناطق الدّروز وجوارها كمحصول يدفع ثمنه نقداً للتّصدير إلى أوروبا. تقّرب التّوسكانيون منه وسايروا طموحاته (...)، وهكذا بدأت مشكلاته مع الحكّام العثمانيّين. ولأنّه كان أكثر حذراً واحتراساً من جانبولاد، تمكن من إصلاح علاقاته مع العثمانيّين كلّما تعرضت للخلل. وفي النّهاية، على أيّ حال، قادته طموحاته بعيداً جداً، وأدرك العثمانيّون أخيراً أن لا خيار لديهم للتعامل معه سوى الحرب.

 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,699,317

عدد الزوار: 6,909,165

المتواجدون الآن: 100