كيف يصنع الشعبُ طُغَاتَه؟

تاريخ الإضافة الأحد 10 أيلول 2017 - 5:34 ص    عدد الزيارات 872    التعليقات 0

        

كيف يصنع الشعبُ طُغَاتَه؟

المستقبل...بول شاوول

صدرت الطبعة الثانية من كتاب آلان ريز «ثياب ماو الجديدة» الذي صار المرجع الفكري والسياسي والميداني الأول، لتفكيك أسطورة طاغية الصين ماو تسي تونغ. قد يبدو هذا الكتاب اليوم «عادياً»، أو مجرد معلومات مستقاة من وقائع «الثورة الثقافية»، وواقعها وحقيقتها، التي جرت في ستينات القرن الماضي، وأدّت إلى مقتل ملايين الصينيين من خلال تنفيذ «الثورة الثقافية». فما هو أساسي في «بطون هذا المؤلف ليس فقط نقل الصورة الإجرامية لماو بل فضح «عماء المثقفين الفرنسيين»، (وسواهم)، عبر تهليلهم لإنجازات هذا القائد «الإلهي» الأيديولوجي، الشيوعي. والذي كان صدمة صدعت رؤوس هؤلاء المفتونين بكل ما يندرج تحت اسم «الثورة». فالمسحورون بالثورة هم أحفاد روبسبير ودانتون في الثورة الفرنسية، والمسحورون بالجنرال بيتان الذي كان حليف النازيين المحتلّين فرنسا. يقول بعضهم إن باريس كانت في تلك المرحلة أي الستينات «ماوية» كلها: من مثقفيها اليساريين، وبصحافييها (لوموند كانت رأس الحربة)، ومثلها «لونوفيل أوبسرفاتور»، وملتزميها، وكتّابها وشعرائها، ودور نشرها (غاليمار). فالإله الصيني «يصنع الثورة البروليتارية» الحقيقية الكبرى، ويطهر البلاد من الرجعيين، والمعارضين، سواء كانوا جمهوراً، أو سياسيين، أو معلّمي مدارس، أو كتّاباً، أو كلّ من يحمل في يده منشوراً غير منشور «الكتاب الأحمر»: من سارتر، إلى ميشال فوكو، إلى آلان باديو إلى سيمون دوبوفوار، وفيليب سولرز... ولهذا عندما صدر كتاب آلان ريز (1971)، اجتمع كل هؤلاء ضده، وأمطروا صاحبه بكل النعوت الشتامة، من «عميل للاستخبارات الأميركية»، (أي تخوينه)، إلى التعرض لشخصه: عاملوه بازدراء، وبالخفة، ونظموا حملة مبرمجة ضدّه: رفضت «غاليمار» طبع كتابه، وشيطنته «لوموند» ودانه كل من ينبس بكلمة «ثورة» أو «تقدمية» أو «يسارية». وإذا كان هذا الكتاب العظيم، يقتصر على «ماو» وظاهرته، فإنه يشير أيضاً إلى مسألة «السلطة»، وأهلها، وحكامها، والإيديولوجيا والمثقفين. ليطرح السؤال المهم: ماذا تعني في النهاية «الإيديولوجيا» بسحرها، وأحاديتها، وبنيتها المغلقة، في الناس، والمثقفين، وأهل الكلمة. فهل كل صاحب إيديولوجيا يسقط في العماء العميم. في ظلمة العقل، والتقويم، ورؤية الواقع والحياة. بل يطرح مسألة السلطة وحاكميتها: هل أن كل «قائد» هو سلطوي؟ وماذا يعني الانسجام المطلق بين «أنا» هذا القائد و«الأنا» الجماعية، وماذا يحصل عندما تُلغى الحدود بينهما.

] أفلاطون

أفلاطون رأى أنّ السلطة تستند إلى المعرفة الفلسفية وحدها، وعلى الفلاسفة. فالديموقراطية تُشكل بالنسبة إليه حكم «الديماغوجيين». «فالفلاسفة يتجاوزون بالفكر تنوّع العالم المحسوس ليرتقوا إلى مستوى التأمل في الجواهر (الأساسيات) الثابتة والأبدية لكل الحقائق، الخير، والشر، والجمال، ولأنهم توصلوا إلى هذه المستويات بعد جهود معرفية مضنية لسنوات، فهم يمتلكون رؤيا عادلة ونهائية لممارسة السلطة على الآخرين». إنها الدوغماتية المطلقة، التي تفتح الأبواب «للمقدسين» والمختارين والنخبويّين من الأولياء ورجال الدين، أيضاً الذين وحدهم يمتلكون حق ممارسة السلطة... كما يحصل اليوم. وهذا بالذات ما حاولت الثورة الفرنسية دحضه: الشعب هو السلطة، ورجال الدين الذين يعكسون السماء على الأرض بإرادة نهائية، أو حتى الفلاسفة «الجوهريين» المجردين، هم ظواهر خطرة على السلطة.

] طوماس هوبس

وهذا يلتقي إلى حدٍّ كبير مع المفكر الفرنسي طوماس هوبس (1588 – 1679)، الذي يرى «ليس في السلطة ما هو طبيعي. فهي لعبة أقنعة». وأهم ما ورد عند هذا الرائي قوله «نحن نسلّم طوعاً سلطتنا إلى شخص آخر لتسهيل أمور حياتنا»(...) وبما أنّ «الناس يعارضون ويدمرون بعضهم ويتصارعون بشكل طبيعي، فهم يسعون بأنفسهم إلى تولي شخص ما السلطة ليحميهم من بعضهم، وبالقوة إذا اقتضى الأمر». وهنا يقرّرون أن يعهدوا قدراتهم الدفاعية الذاتية إلى مَنْ يُمثّلهم، ويتكلم باسمهم، ويمنحونه سلطة بلا حدود. لكنه يؤكّد بأننا نحن الناس، من يصنع كل ما سيفعل هذا «الممثّل» السياسي، لأننا سبق أن منحناه سلطة التصرف مكاننا. لكن وماذا عن الانحرافات إلى الاستبداد. يردّ المنتقدون «أوَليس من حقي الطبيعي في الحياة أن أسحب منه تكليفي؟».

] ماكس فيبر

صحيح أنّ ماكس فيبر السوسيولوجي البارز يرى أنّه يمكن أن يمتلك السلطة شخص بفضل التقاليد والعادات. وإن كان هذا غير كافٍ إذا كان لا يمتلك الكاريزما والحضور. لكن هذه «الهالة السرية» المقدسة، التي تخوّله التكلم بكل الأمور، تبقى ناقصة وخطرة، لأنها تجعله يحكم في أمور لا يعرفها (رجال الدين، الفلاسفة، العسكريون...) لينزلق إلى السفسطة البلاغية، وإلى الديماغوجية..، والشعبوية.. أولا يُذكر هذا بالمنشق الجديد رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الشعبوي بامتياز... وماذا عندها عن زعيم حزب سياسي، أو حاكم «نرجسي»، أو رئيس طائفة، أو قبيلة... هم يجسّدون هذا النوع من الحاكم «الكاريزماوي»... الذي، ربما لا يتمتع بغير ديماغوجية بلاغية طنانة، تتوجّه «أسطورة»، ليستخدم سلطته للقمع الرهيب، والقتل، والإرهاب والتكفير، والتخوين كما هي حال آية الله الخميني، أو خامنئي أو هتلر قبلهما، أو ستالين، أو حتى تريزا ماي، ولوبان، وصولاً إلى بول بوت، وماو، وزعيم كوريا الشمالية... وترامب؟

فما هي مشكلة العالم الذي نعيش اليوم؟ أو الذي سبقنا في حربين عالميّتين أدتا إلى مقتل 70 مليون شخص. فالنظرية الأفلاطونية تدعو إلى أولوية أن يحكم الفلاسفة دون سواهم، أفضت إلى أن مجيء قادة عنصريين: هتلر، نتنياهو، بوتين، وأردوغان، وخامنئي. والفكرة الغريزية حلّت محل الفكرة الفلسفية (التجريدية) المتفوّقة، والإثنتان تلتقيان على صناعة الحاكم «المقدّس»، و«الإلهي»: من سلطة الشعب المسحور بالشعبوية إلى سلطة القائد «الكاريزماوي» أو الديني: حفنة من الطغاة يتحكّمون بالعالم اليوم، وجلّهم إما ديماغوجي سياسي، أو شعبوي عنصري، أو فوضوي: مشاريعهم، تنبش في الماضي، وترميه في عقول الناس لتعميهم، وتشوّشهم، لينساقوا كالقطعان إلى سلطة هؤلاء الحكام. أي كأننا عدنا إلى افتتان الناس والمثقفين والكتّاب والصحافيين، بالطغيان، بالقوة الغريزية، اللاعقلانية، التي لا يحد ممارساتها لا أخلاق، ولا إنسانية، ولا أوطان، ولا شعوب... ولا قضايا. (داعش وإيران والأسد في الطليعة).

] الخميني

حملت أكثرية الإيرانيين الخميني إلى السلطة كمنقذ من «بطش» الشاه، و«ظلمه»، و«فساده»، فماذا فعلَ «آية الله» رجل الدين هذا الذي احتكر كل السلطات في يده (نعود إلى نظرية أفلاطون): مارس مجازر جماعية وقتلَ نحو 30 ألفاً من حلفائه في إزاحة الشاه من مجاهدي خلق وحزب تودة... ودفنَهم في مقابر جماعية! إنّه رجل الدين المعصوم الذي حلَّ محل رجل الفلسفة المعصوم، المطلق، المتفوّق، القدسي، العارف،... وهذا بالذات، سواء برجل المعرفة الأسمى أو برجل الدين «الإله»، أدى إلى تجريد الحياة الإنسانية وامتهانها، واستخدامها لخدمة مشروع السلطة نفسها: فالمسألة هي أن تكون في السلطة أو لا تكون: والقناع، مشاريع طائفية، أو عنصرية، توسع آفاق تحكم هؤلاء: فإيران بخامنئيها، سحبت من بطون التاريخ وغباره، الصراع السني والشيعي، كواجهة، لبسط نفوذها على جيرانها العرب – السنة، واستخدمت شعار الانتقام لشهدائها قبل أكثر من ألف عام، لتفكك المجتمعات العربية، إلى دويلات مذهبية، وحروب دينية، تمكّنها من تحقيق «هلالها – الشيعي – الصهيوني» (هي إسرائيل الجديدة اليوم، تحتل أجزاء من سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان ووكيلها الحصري في بلاد الأرز السيّد حسن نصرالله الذي لم يتردّد في وضع كسوة القدّيسين على رأسه، ليكون (كخامنئي) ولياً فقيهاً، ومرشداً على شيعة لبنان...

] كاريزما نصرالله

وهنا نعود إلى ماكس فيبر: بكاريزما نصرالله، وشعاراته التحريضية الفئوية، وتقدمه كمنقذ طائفته من خلال وجود لبنان، سلّمته الطائفة مفاتيح عقلها، وأمورها، وأرواح بنيها وإرادتها: وماذا حصل؟ جعل الطائفة بشبابها وشيبها وقوداً لمشروع خارجي! منحته الطائفة سلطتها «فابتلعها»، ثم مارس عليها «حاكمية» مطلقة، في أمور الدين والدنيا، والحرب والسلم، مبتكراً بدعة «التكليف الشرعي» ليسوق شبابها إلى الحرب السورية، ويسقط منهم نحو 5 آلاف بين قتيل وجريح كُرمى وخضوعاً وخنوعاً للمشروع الإيراني. خان العهد، لأنّ طبيعته المذهبية المتطبّعة بالفرس، لن تؤدي سوى إلى ذلك. أوَليس هذا ما فعلته الميليشيات السابقة المسيحية والإسلامية اليسارية في لبنان عندما أفرغت عقول شبابها وعبّأتها بالعنف، والتعصب، والتطرّف، والهوس بالحروب، وبالتقسيم، ورفض الآخر؟

] أحفاد هتلر

كأنما صاروا كلهم أحفاد هتلر: غسل عقول الناس بأفكار وهمية، وبأساطير، وخرافات، ثمّ سوقهم إلى الموت: فالعنصرية (ومنها الطائفية – والإيديولوجية العلمانية المطلقة)، لا تحترم العقل. إنها مُختَرَع سلطوي، لإخضاع الناس، وسلبهم إرادتهم، ومعتقداتهم، وانتماءاتهم، وتذويبها في ظاهرة عدائية، عدوانية، غير إنسانية. هنا بالذات يمكن القول إن «أنا» الطاغية تصبح «أنا» الجماعة أو الشعب.. أهذا صحيح؟ لا! فالناس يتوهمون أن ما يفرضه الطاغية طالع من «إرادتهم»، والواقع عكس ذلك: فالتماهي غير المتكافئ، والمصطنع، ما هو سوى ذوبان المجموعات في مشروع الحاكم: ليس اكتسابهم زعيماً منهم، بل جعلهم أعداء أنفسهم، ومصالحهم، وتاريخهم، وتقاليدهم، وإبداعاتهم، أوَليس هذا ما فعله حافظ الأسد ووليده بشار، وصدّام وأبناؤه، وعلي صالح وأقاربه وخامنئي وشعبه، وبوتين وأدواته القمعية، وأردوغان وسياساته التصفويّة؟ والويل كل الويل، إذا تحوّل الشعب بكامله، (أو فئة منه)، أو طائفة أو حزب على صورة القائد الشعبوي، «الإلهي»، «المقدس» المطلق... وعندها يتحول الناس مجرد أدوات: روبوتات، «بعقول اصطناعية»، مفبركة؛ بل يصبحون «كائنات» نباتية بغيابها، وشغورها، وموتها... كائنات هيولية... بل افتراضية. وإذا نظرنا اليوم إلى واقعنا في لبنان، وبلاد العرب، والعالم، نجد أن هناك منقلبات خطرة: ظواهر «داعش»، و«النصرة» عندنا، والنازية الجديدة في أوروبا وأميركا وآسيا، والماويّة المتجددة في كوريا الشمالية، والستالينية المتجددة بثوبها «المذهبي» في روسيا... أي أن «كل العناصر الإنسانية، والعنصرية، والمذهبية، باتت جاهزة لتكرار حروب القرون الوسطى، وحروب القرن العشرين... والفتوحات، والتمزقات». وإذا كانت الحركات الدينية ثم الإيديولوجية، فالمذهبية، قد انتعشت من جديد، فيعني أنّ مقولة «لا تغتسل مرّتين في مياه النهر الواحد»، (فكرة الصيرورة والتقدم والارتقاء)، قد ضربت من أساسها، لنعود إلى المقولة الجديدة المقدسة: كلنا نغتسل بمياه النهر الواحد ليس مرتين فقط... بل إلى الأبد! هذا بالذات ما يُهدّد العالم اليوم، ديموقراطيته، ومجتمعاته المدنية، وسيادة شعوبه، وقيمه، ونهضته، وتنويره...

إنه الاغتسال الدائم بماء المستنقعات الآسنة.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,208,746

عدد الزوار: 6,940,527

المتواجدون الآن: 138