التفجيرات ضد مسيحيي العراق ومصر: أين الصدق وأين النفاق في ردود الفعل ؟

تاريخ الإضافة الأحد 9 كانون الثاني 2011 - 5:21 ص    عدد الزيارات 782    التعليقات 0

        

التفجيرات ضد مسيحيي العراق ومصر: أين الصدق وأين النفاق في ردود الفعل ؟
بقلم زياد عسلي وحسين أيبش

كانت التفجيرات الدموية التي استهدفت المسيحيين في مصر والعراق موضع استنكار شديد من معظم القادة السياسيين والدينيين والمعلّقين ومن الرأي العام في العالم العربي. وجوبِهت أيضاً بسيل من الاستهجان الشديد من جانب الناس العاديين الذين نزلوا إلى الشارع للتعبير عن غضبهم والمطالبة بإحقاق العدالة. شعر الناس بأن هذه الفظائع تُعرِّض مجتمعهم بكامله للخطر. يمكن أن تشكّل مجزرة كنيسة الإسكندرية نداء للصحوة من أجل التخلّص من النزعات الخطرة، أو قد تكون بداية تفكّك الروابط التي تحافظ على اللحمة بين مواطنين من أديان وخلفيات مختلفة.
لكن السعي إلى إلقاء اللوم فقط على أشخاص من الخارج أو متطرّفين في هذه الهجمات يحجب سياقاً أعمق وأشدّ إثارة للقلق بكثير. صحيح أنه ليس هناك تعاطف مع الجرائم المشينة للمتطرّفين المتعصّبين خارج صفوفهم، إلا أن هؤلاء الراديكاليين القتلة يقودون في الواقع بعض أنماط السلوك المجتمعية السائدة إلى خاتمة دموية ومنطقية، ولو متطرِّفة. لقد أدّت النزعات السياسية في العالم العربي التي تنبثق عن واقع العجز وعدم المساواة المتفشّي على نطاق واسع، إلى صعود حساسية شوفينية قتالية النزعة تثمِّن أكثر فأكثر الهوية الإسلامية وتنظر إلى باقي العالم، ولا سيما الغرب، بتشكيك وعداء شديدَين.
تُسوَّق أنماط السلوك هذه من أعلى الهرم إلى أسفله، من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية والدينية المدعومة من الحكومة، ومن أسفل الهرم إلى أعلاه، في المنزل إلى مائدة العشاء وعبر الإنترنت من خلال شبكات إعلامية اجتماعية تبث خطاباً بليغاً راديكالياً يستهدف الشبّان المتململين. تنبثق أسوأ الأفكار في شكل عام عن المؤسسات الدينية الإسلامية والقادة الإسلاميين ومجموعات المعارضة السياسية الإسلامية الذين يردّدون باستمرار أن المؤامرة ليست فقط ضد العرب لمنع تطوّرهم، بل هناك أيضاً حملة عالمية لتدمير الإسلام في ذاته. الأصوات المعتدلة التي تنظر إلى العالم من منظار سياسي لا ديني أقل عدداً، وتعمل خارج معايير الصوابية السياسية ورفاهيتها. تحاول بشجاعة الدفاع عن قيم كونية فيما تُضطرّ إلى مواجهة الترهيب المستمر بسبب معارضتها المتمسِّكة بالمبادئ للتطرّف.
تطغى الرواية التي تعتبر أن العرب هم ضحايا على أيدي غرب قوي جداً يُمعِن في إيذائهم، وغالباً ما تركّز على موضوع الازدواجية في المعايير التي لا شك في أن العرب يتعرّضون لها. لكن نادراً ما ينأى العرب أنفسهم عن هذه الازدواجية في المعايير ويطبّقون المعيار الواحد على مستوى الاستبطان أو انتقاد الذات. تُذكَر مساهمة العرب والمسلمين في إخفاقاتهم وعجزهم وعدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية التي يعانون منها ومنظوماتهم المختلّة وظيفياً من دون أي سعي جدّي إلى تطبيق إجراءات تصحيحية. إلا أن اللوم الحقيقي في الفشل يُلقى دائماً على عاتق غرب معادٍ ومناوِر تقوده أميركا وكذلك على عاتق النخبة التابعة غير المنظَّمة في المنطقة.
مسألة الأقليات الدينية هي نقطة انطلاق مثالية للنظر في حجّة ازدواجية المعايير. إذا أتيحت للمسلمين الفرصة، يستمرّون في التدفق إلى الغرب حيث تنمو الجماعات المسلمة وتزدهر، على الرغم من أنها تواجه أيضاً خطراً متزايداً بالتمييز والعداء الثقافي.
بيد أن الأقليات المسيحية وسواها من الأقليات الدينية في العالم العربي تتقلّص وتذبل في شكل عام، وتواجه الآن حملة هجمات دموية يبدو أنها صُمِّمت عمداً من أجل محاولة طردها من المنطقة أو على الأقل من بعض بلدانها في شكل نهائي. وواقع أن الغالبية الكبرى من ضحايا الإرهاب الإسلامي تتألف من مسلمين لا يقلّل من شأن الهمجية الشديدة لهذه الهجمات على المسيحيين. قُتِل هؤلاء الأشخاص لمجرد أنهم مسيحيون، والهدف الواضح هو إخافتهم كي يغادروا البلاد وربما المنطقة. أما المسلمون فيُقتَلون عامة لأنهم يعترضون بالصدفة طريق من يستخدمون الإرهاب لتحقيق النفوذ وغايات سياسية، ويشمل ذلك العنف المذهبي بين المسلمين في العراق الذي هدف إلى إرغام الجماعات على النزوح إلى أماكن أخرى داخل البلاد.
ليس كافياً أن تدين الحكومات العربية والإسلامية، وبعض وسائل الإعلام والمنظمات، أعمالاً مشينة وغير مقبولة بكل وضوح مثل المجازر الأخيرة. ففي العديد من البلدان الإسلامية، تواجه الأقليات الدينية التمييز وتقييد الحقوق وقوانين ضد التجديف والارتداد و"إهانة الدين"، كما تخضع لقيود تمنعها من بناء دور عبادة أو إعادة إعمارها، وكذلك للتسويق العدواني المدعوم من الدولة ليس للإسلام وحسب إنما لبعض مدارسه الضيّقة الأفق. يجب أن تلقى كل هذه الوقائع معارضة مستمرّة من جانب من يدافعون بصدقية عن حقوق المسلمين في الغرب من دون أن يمارسوا هم أنفسهم الازدواجية في المعايير.
من دون الدخول في مجادلات عقيمة حول من يدافع عن نفسه ومن هو المعتدي، فإن العمل المتوجّب إنجازه للتصدّي لعدم التسامح والإقصاء في كل مكان يجب أن يتم بصورة رسمية وقانونية، وكذلك على المستويَين الاجتماعي والمتّحدي هنا وفي الشرق الأوسط على السواء. من شبه المستحيل الحصول على دعم واضح من الأميركيين العرب أو المسلمين لأعمال العنف الوحشية ضد المدنيين، لكن من السهل أن نجد في أوساطهم أصداء لمشاعر الضحية والصواب الذاتي التي تنبثق عنها أعمال العنف تلك. حتى في أوساط المسيحيين العرب والعرب-الأميركيين وأقليات أخرى، يمكن بسهولة الوقوع على مثل هذه الآراء.
لا شك في أنه لدى الآخرين الكثير من العمل ليقوموا به. يجب مواجهة مشكلات رهاب الإسلام الذي يتفشّى في الغرب، والعنصرية الفاضحة المتزايدة ضد العرب في إسرائيل، على مختلف المستويات، من دون خوف أو ممالقة. يجب مساءلة زمر المستوطنين الإسرائيليين المغيرين والخارجين عن القانون، والمتعصّبين الدينيين والأيديولوجيين الأميركيين الذين ينادون بالعنصرية. من الضروري أن تتحمّل الجماعات والهويات الجماعية والمجتمعات مسؤولية أكبر كي تُحدِّد مسبقاً حدود الخطاب أو السلوك "المحترم" الذي يحظى بالقبول، وما الذي يتجاوز الحدود بكل وضوح ويجب التحسّب له على اعتبار أنه خطر اجتماعياً وسياسياً، حتى ولو اقتضى ذلك تبديد التوقّعات بشأن التضامن الإتني أو الثقافي أو الديني.
سوف يشتكي النقّاد من أننا نخلط الأمور، ونوسِّع شبكة اللوم كثيراً أو أننا لا نتوخّى الإنصاف. ما نفعله في الواقع هو المهمة التي لا مفر منها المتمثّلة في إقامة روابط بين كلمات تبدأ بالرياء والوعيد الشوفيني، وتنتقل إلى ترويج اللاتسامح والخوف والكراهية، وفي الختام تتحوّل في أيدي الأكثر تطرّفاً أعمال عنف عديمة الضمير. يجب معالجة المصدر والنتيجة على السواء من أجل تغيير النزعة.
حفنة ضئيلة جداً من الأصوات والمنظّمات في المجتمعَين العربي والمسلم، وفي الجالية العربية-الأميركية، ترفض الخطاب الذي يؤدّي في نهاية المطاف إلى هذا النوع من العنف المروِّع عندما يستخلص منه القتلة الفاقدون لصوابهم خاتمته المنطقية. فموقفهم الافتراضي هو أنهم يذكرون أشكالاً عدّة من الظلم، ويطلبون من الآخرين تفهّم دوافع العنف عبر الإشارة إلى ازدواجية المعايير أو أسباب أخرى. تعني هذه المقاربة أن الغالبية في المجتمعات العربية، وكثراً في أوساط الجماعات الأميركية العربية والمسلمة يختارون في الواقع الصمت. لا يعني ذلك على الإطلاق أن هذه الغالبية الصامتة أو المتردّدة تتغاضى عن أعمال القتل التي يرتكبها متطرّفون متعصّبون. لكن المجازر في مصر والعراق تُظهِر أنه على الجميع أن يكونوا أكثر يقظة ويدركوا أن لغة الكراهية واللاتسامح يمكن أن تقود في نهاية المطاف إلى عنف لا يوصف، ويجب رفضها والتصدّي لها بخيارات مسؤولة.
في بلدنا، المدافعون الأشدّ عن الرواية التي تضع العرب والمسلمين في صورة الضحايا، من يلومون الغرب ولا سيما أميركا أو "الرجل الأبيض" على المصائب التي تحلّ بالعرب والمسلمين، ومن يشجبون بأعلى صوت المضايقات القانونية والمجتمعية التي يتعرّض لها العرب والمسلمون في الولايات المتحدة يُفيدون إلى أقصى حد، وهذا من حقّهم، من المنظومة الأميركية ويجدون ملاذاً في الراحة والأمن اللذين توفّرهما الحرّيات التي تؤمّنها هذه المنظومة. الضرر الذي تتسبّب به هذه الأصوات الأعلى والأكثر مناهضة لأميركا التي تصدر عن الجماعات العربية والمسلمة المهاجرة الهشّة التي تشعر أصلاً أنها محاصَرة هو أنها تؤمّن ذخيرة للديماغوجيين والانتهازيين الذين يستغلّون العنصرية ولمروِّجي الكراهية والخوف من المسلمين العرب والأميركيين، كما أنّها ترسّخ أسوأ النزعات العنصرية والشوفينية في البلاد وتشجّعها.
حقّقت الأقليات في هذا البلد أهدافها المتّحدية والجماعية عبر إعادة صوغ المنظومة، وكسب الدعم والنفوذ من خلال التصدّي الشجاع إنما السلمي للإجحافات، واستخدام القانون والمنظومة السياسية، وليس عبر رفض المنظومة واعتبار أنها فاسدة وغير قابلة للتصحيح في طبيعتها. ولم تلجأ بالتأكيد إلى قتل العسكريين أو المدنيين غير المسلّحين، أو التآمر لتفجير طائرات أو ساحات عامة.
ليس الصمت خياراً سليماً للأميركيين العرب والمسلمين. فهذه المجموعة هي الأكثر هشاشة أمام العواقب التي يمكن أن تترتّب عن هجوم إرهابي مقبل أو أمام السياسات المستندة إلى الخوف والإقصاء. ما يحدث وما لا يحدث في العالم العربي والإسلامي مهم هنا في الولايات المتحدة. وليست هذه المقولة بحاجة إلى تفسير بعد أحداث 11 أيلول 2001. الحروب الشعواء ضد الأقليات وليس فقط المسيحيين في الشرق الأوسط، سواء كانت حروباً رسمية أم مجتمعية أم إجرامية وحسب، والتي يشنّها أولئك الذين يسعون إلى تقسيم العالم إلى كتل دينية وإتنية كبيرة ومتحاربة وإقصائية – هذه الحروب ليست تهديداً لأميركا وقيمها وحسب. إنها تشكّل خطراً محدداً وفورياً على الأميركيين العرب والمسلمين الذين ينبغي عليهم، وهذه ضرورة ملحّة، معارضة هذه السياسة وهذا الخطاب. يجب أن يطوّروا درجة أعلى من الصدق في خطابهم ويطالبوا بأن تبدي نخبهم وقياداتهم إحساساً أكبر بالمسؤولية.
من شأن مسار الأحداث المأسوي في الوقت الراهن الذي يسوده سوء توزيع النفوذ والموارد في العالم العربي والإسلامي، وشعور الضحية المتعاظم والموجَّه أكثر فأكثر نحو الغرب، ولا سيما أميركا وأصدقائها وحلفائها، أن يخرق في نهاية المطاف الإجراءات القسرية التي أبقت حتى الآن على الاستاتيكو غير المستقرّ في جوهره. إذا لم يتحقّق تغيير جدّي في المدى القصير، فسوف ينهار هذا السدّ ويقع الطوفان. هناك حاجة ماسّة إلى أفكار وأفعال وبرامج والقليل من السلام في فلسطين لمنح قوى الاعتدال ورجاحة العقل فرصة للكفاح في كل مكان.
كي تصمد المجتمعات العربية والمسلمة وتتنافس عالمياً، يجب أن تحتضن فسيفساءاتها الثقافية والدينية والإتنية، وتعتبر تنوّعها مصدر قوة لا ضعف. وعليها أن تتبنّى ثقافة لا تُثمِّن الحقوق الفردية وتعطي الأولوية لدور المواطن في الحياة السياسية والاجتماعية وحسب، بل تهتم أيضاً بحقوق الأقليات. قيم التعدّدية والتسوية السلمية للنزاعات والشمول هي الترياق الفاعل الوحيد لمكافحة سمّ التطرّف والعنف المتطرّف. يقتضي تبنّي هذه القيم تغييراً في الثقافة الاجتماعية والسياسية، ولهذه الغاية، يتعيّن على كل عربي وكل أميركي عربي ومسلم أن يتحمّل حصّته من المسؤولية. يجب أن يدافعوا جهاراً وبشجاعة عن هذه القيم هنا وفي الشرق الأوسط. ثمن الصمت باهظ. يجب ألا نسمح بأن تسود قوى التعصّب والعنف والإقصاء.


(زياد عسلي رئيس فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين،  وحسين أيبش زميل أساسي في فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين - ترجمة نسرين ناضر)      

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,209,868

عدد الزوار: 6,940,552

المتواجدون الآن: 125