دور حسّاس لواشنطن في معالجة تداعيات المحاولة الانقلابية في تركيا

تاريخ الإضافة الأحد 24 تموز 2016 - 5:37 ص    عدد الزيارات 425    التعليقات 0

        

 

 
دور حسّاس لواشنطن في معالجة تداعيات المحاولة الانقلابية في تركيا
حسن منيمنة
حسن منيمنة هو مساهم في تحرير منتدى فكرة.
محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا قابلة للإدراج لا في إطار التجاذب السياسي التركي الآني وحسب، ولكن أيضاً في سياق سجال ثقافي عميق من شأن تطوراته أن تترك أثراً خطيراً على مكانة تركيا في الدوائر المتداخلة التي تقع في وسطها، الإسلامية والآسيوية، وكذلك الأوروپية والأطلسية. وخطورة العواقب تقتضي التأني بالخطوات، وتفرض على الولايات المتحدة تحديداً مطلق الحرص للمحافظة على العلاقة المفصلية التي تربطها بهذا الحليف الأساسي.
ردة الفعل الأولية لوزير خارجية الولايات المتحدة، جون كيري، إذ بلغته في موسكو أنباء المحاولة الانقلابية عشية وقوعها مساء الخامس عشر من تموز الجاري كانت أعلانه وجوب التحفظ عن التعليق على التطورات، والتأكيد على أن الاستقرار والاستمرارية والسلام في تركيا هي الأسس التي لا بد من التمسك بها. لم تكن تلك اختيارات موفقة للكلمات. فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تنأى بنفسها عن المجاهرة بدعم الحليف، المنتخب ديمقراطياً، إلى حين اتضاح الصورة (كما جرى في الساعات التالية)، ولا استعمال عبارات يمكن تجييرها لقدر من التماهي مع الانقلابيين، إذ اختاروا لأنفسهم شعار هدف «السلام في الداخل». يكفي الحكومة التركية في واشنطن أنه ثمة أجواء إعلامية وجامعية تغدق عليها بالطعن، بل ثمة من تمنى نجاح الانقلاب ثم تأسّف لفشله، وثمة من ألقى اللوم جملة وتفصيلاً على الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، لجنوحه المتحقق والمرتقب إلى أشكال من الاستبداد.
والواقع أن أردوغان، سواء في الولايات المتحدة أو في تركيا نفسها، هو بالنسبة للبعض رجل خطير، إذ يجمع ما بين السلطوية والشعبوية والإسلامية المبطّنة والطموحات العثمانية الجديدة. وهو يبدو بالتالي نقيض المبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية في أعقاب الحرب الكبرى قبل قرابة قرن من الزمن. فمؤسس الجمهورية، ورمزها التاريخي، مصطفى كمال أتاتورك، أراد للدولة التي نهضت من أنقاض السلطنة العثمانية ذات المزاعم المبهمة لخلافة تشمل عموم المسلمين في أرجاء العالم، أن تنقطع عن محيطها الشرقي وتاريخها الإسلامي وتتوجه غرباً، فتجتمع ضمن إطار هوية وطنية وقومية تركية تأحيدية، وتلتزم ثقافة سياسية قائمة على العلمانية الصارمة، لتحقيق الاستقرار والارتقاء على أساس معادلة السلام في الداخل والسلام في الخارج.
وقد قدّم مصطفى كمال، في اختياره للقب «أتاتورك» والذي أصبح علماً عليه ومعناه «أبو الأتراك»، تجسيداً للأبوية السياسية، من خلال شعار التزمه قولاً وفعلاً: «من أجل الشعب، رغماً عن الشعب»، فبذل جهوداً متواصلة لتطويق ما اعتبره السبب الأول للتراجع الحضاري والاقتصادي، وهو في نظره الغلو في الدين عبر اعتماده مرجعية فيما يتعدى الجانب الروحي. وقد تدرّج النظام السياسي في تركيا، بعد رحيل أتاتورك، باتجاه صيغة تمثيلية أكثر تعبيراً عن الإرادة الشعبية، دون المس، حتى زمن قريب، بدور المؤسسة العسكرية في مسؤولية الوصاية الأبوية على استمرار الأسس التي أرساها أتاتورك (وإن بشكل انقلابات ومراحل حكم عسكري).
وفي حين أن مشروع أتاتورك القومي العلماني التغريبي لم يكن دخيلاً على المجتمع التركي الناشئ، بل تعود جذوره إلى تحولات ثقافية وتنظيمية وسياسية ظهرت بقوة في القرن التاسع عشر، فإن الحصيلة المجتمعة لهذه التحولات وللجهود الفوقية التي ثابرت عليها دولة أتاتورك، معه ومن بعده، لم تصل إلى حد النجاح الحاسم غير القابل للردة. فلا شك أن العديد من القيم التي اجتهد أتاتورك في توطيدها في تركيا، وفي طليعتها الفصل بين السياسي والديني، قد أتاحت المجال لقيام إطار اجتماعي تركي صادق في علمانيته بل متشدد في الدفاع عن أسسها من جهة، وعمّمت في سائر السياقات الاجتماعية التركية قناعة متفاوتة بجدوى هذا الفصل أو حتى وجوبه من جهة أخرى، فإنها لم تمحِ التديّن كسمة اجتماعية بارزة في البلاد، ولا الدعوات الإحيائية للدين كإطار شامل، والتي استمرت في التفاعل مع قريناتها في العالم الإسلامي.
والعقود القليلة الماضية في تركيا قابلة بالتالي لقراءات متضاربة: فهل أن بروز حزب العدالة والتنمية، وما سبقه من تشكيلات سياسية ذات مرجعية مبدئية دينية، هو تصحيح ذاتي لمبالغة علمانية في إنكار القناعة الدينية والهوية الثقافية للقاعدة الجماهيرية، وتجاوب مع سعي للانتهاء من هرمية اقتصادية حصرت الثروة والسلطة بيد القلّة؟ أم هل أنه ريح عقائدية شرقية جاءت لتفسد الترقي الذاتي لشعب تحرّر من ميراث تاريخي مرهق، ومجابهتها متوجبة على النخبة المستنيرة؟ وهل التعبئة السياسية في تركيا هي شعبوية وصولية يرتادها أردوغان وغيره من الإسلاميين المكتومين لتحقيق أغراض تضرّ بالبلاد من حيث يدرون أو لا يدرون، أم هل هي ديقراطية فعلية تهدد مصالح نخبة تدّعي الوصاية على البلاد بحجة الدفاع عن علمانية، هي في الواقع فوقية إقصائية تتزين بديمقراطية شكلية؟
الجواب على هذه التساؤلات تحكمه على الغالب رؤية مسبقة قائمة على القناعة الفكرية والمصلحة السياسية لصاحبها. ودون الوقوع في فخّ الحياد المعطّل، يمكن الإقرار بأن حجج الجانبين تنضوي على أوجه إقناع. فالتجاذب قائم بين الديمقراطية والسلطوية، والشعبوية والنخبوية، والتوافقية والفئوية، والإسلامية والعلمانية. غير أن الاصطفاف ليس تلقائياً بين هذه التوجهات، كما يجري في التجريح المتبادل بين الأطراف المتعارضة. فالسلطوية، والتي يبدو أردوغان جاهداً لتحقيقها، ليست ابتكاراً من الإسلاميين (الصريحين أو المكتومين)، بل جلّ من مارسها كان العلمانيون وفي حين أن حزب العدالة والتنمية تمكن في مرحلة سابقة من البروز بدور توافقي إزاء المكوّن الثقافي واللغوي الكردي تحديداً، في مقابل التشدد الفئوي للأحزاب العلمانية القومية، فإنه قد تخلّى عن معظم مقومات هذا الدور تباعاً. وإذا كانت الأبوية الفوقية صريحة في الوصاية التي منحها الجيش لنفسه على النظام السياسي في تركيا في العقود الماضية، فإن النخبوية متأصلة في الثقافة السياسية للبلاد، وعلى أساسها يجري إسقاط أي إنجاز ديمقراطي للخصم في خانة الشعبوية. فلا حصرية، لا لحزب العدالة والتنمية ولا لغيره من الأحزاب السياسية، ولا للجيش، بإدعاء تجسيد الطيب من هذه التوجهات أو إلصاق الخبيث منها بالخصوم.
ويمكن إدراج جماعة «خدمة»، والتي تسترشد فتح الله غولن دون أن يكون رأساً تنظيمياً رسمياً لها، في إطار الفرز والتداخل بين هذه التوجهات. فهي بحكم طبيعتها القائمة على التأهيل والتضامن نخبوية، ولكنها من حيث انفتاحها الوطني العام غير فئوية، كما أنها في تديّنها المسلم غير المسيّس تنقض التجاذب القطبي الإسلامي العلماني.
والواقع أن فتح الله غولن يقع بين مصطقى كمال أتاتورك ورجب طيب أردوغان كمثال عن التفاعل بين الموروث والحداثة. فإذا كان أتاتورك قد اختار التخلي عن الموروث واعتناق حداثة مشروطة باستيعابه الانتقائي لمقوماتها، وإذا كان أردوغان قد رجّح الموروث كمرجعية ورضي بما تقدّمه الحداثة من أطر عملية، فإن غولن يقدّم رؤية ثالثة تؤصّل الحداثة في الموروث، مجدداً وفق قراءة ذاتية، وتخرج بصيغة غير مبنية على التصادم بينهما. في تركيا إذن، فكرياً وثقافياً، ثلاثة طروحات متنافسة، لكل منها ترجمة عملية وتطبيقية سياسية. غير أنه ثمة طرح رابع، وإن لم يكن مكتملاً في إخراجه الفكري والتنظيمي، إلا أنه ذو تأثير عند هوامش الجمهور المحافظ على الموروث والقابل بالحداثة، أي جمهور أردوغان. فهذا الطرح يشكك بالحداثة أساساً وينحى باتجاه إسقاطها والالتزام الحصري بالموروث. المعني هنا هو طبعاً الإسلامية القطعية.
وإذا كانت الإسلامية القطعية غير قادرة على الانتظام في تركيا، للنجاح الذي حققته الأتاتوركية في توطيد الفصل بين الديني والسياسي في عموم المجتمع، فإن المدخل لديها، في سعيها إلى إيجاد ثغرة تنفذ منها إلى صلب الثقافة هو التشكيك بنتائج مشروع أتاتورك ومن ثم بأسسه. فإذا كان الجمهور التركي قد أذعن لأبوية أتاتورك، فإن ذلك كان لهدف تحقيق العزّة والازدهار، والارتفاع بتركيا إلى مكانتها العالمية المستحَقّة. إلا أن العالم، وفق السردية الرابعة، لا يبدو مستعداً للإقرار والقبول بمقام تركيا رغم التزامها بما يشترطه من قيم وقيود. فالاتحاد الأوروپي يضع العراقيل ويتربص الأخطاء لتأخير انضمام تركيا إليه، وقد لا يسمح به أبداً. والأسوأ، وفق ترويج السردية الرابعة، هو أن الولايات المتحدة نفسها تفضّل التعامل مع الحكومات العسكرية في تركيا (وفي غير تركيا من دول الجوار، كما يتبين في تطبيعها لمصر الانقلابية)، لأغراضها الأمنية، دون اعتبار للمبادئ التي تشهرها، إذ هذه المبادئ تمويهية وحسب.
يسعى أردوغان منذ فترة غير وجيزة لإنهاء دور الوصاية على النظام السياسي والذي قامت به المؤسسة العسكرية في العقود الماضية. وفي حين يقدّم هذا المسعى على أنه تحقيق لمدنية الدولة وتعزيز لديمقراطيتها، فإن ثمة خوف من أن يكون تذويب الدور الرقابي للجيش مقدمة لسلطوية يستفيد منها أردوغان، بل تدرّج باتجاه فرض الإسلامية التي يرتاب البعض من أنها هدفه المستتر. وفي المقابل، فإن الكفاءات التي حققتها جماعة «خدمة» وانتشارها الواسع في عموم الدولة والمجتمع والاقتصاد، يجعل منها ثقلاً سياسياً وتنظيمياً يعترض استئثار أردوغان وحزبه وطرحه بصياغة مستقبل البلاد. والمناوشات بين «العدالة والتنمية» وجماعة «خدمة» كانت قد ارتفعت حدتها في السنين القليلة الماضية، فتحول التنافس إلى خصومة، والخصومة إلى عداء.
فالأسئلة البديهية مع المحاولة الانقلابية الفاشلة هي هل أن جماعة «خدمة»، استباقاً منها لضربة قاصمة من أردوغان، قد تحالفت بالفعل مع قيادات عسكرية للإطاحة به؟ أم هل أن التقاطع بين هذه القيادات وبعض الجماعة عرضي وحسب انطلاقاً من المصلحة المشتركة بالتصدي لتوطيد أردوغان لسلطة غير قابلة للنقض، وغير قائم على تحالف شامل، ولا سيما أن الجماعة وفق توصيفها الذاتي ليست حركة سياسية مركزية ذات قيادة قادرة على تحالفات من هذا النوع؟ أم هل أن أردوغان استفاد من المحاولة الانقلابية للتخلص من مجمل خصومه، الضالعين بالمحاولة والأبرياء منها، سواءاً لخشية صادقة لديه بأن هؤلاء الخصوم لن يستكينوا إلا عند سقوطه، أو كفرصة قابلة للانتهاز لتحقيق نتائج يتمناها؟
قد لا تكون الإجابة على هذه الأسئلة ممكنة في القريب العاجل. الأكيد هو وحسب أن صحة تركيا السياسية والثقافية هي أكثر تحققاً مع استمرار الطروحات المتنافسة، والتي تختزل بأشخاص أتاتورك وغولن وأردوغان، بالسعي إلى كسب ودّ الجمهور، ومع بقاء الطرح الرابع، أي الإسلامية القطعية، خارج إطار المقبول اجتماعياً وسياسياً.
في حسابات أردوغان، وفي تقييمه للمجريات، يبدو بأن غولن، وليس أتاتورك، هو الخطر الداهم. غير أن مسؤولية غولن عن المحاولة الانقلابية، رغم جزم أردوغان بها، تحتاج إلى بينة لا تبدو متحققة. وعلى عاتق الحكومة التركية تقديم قرائن ودلائل تثبت التهمة. ولكن في المقابل، فإن موقف الولايات المتحدة، بعد أن شابه بعض التخبط الذي يكاد أن يكون معتاداً، لا بد أن يكون التأييد الصريح للحكومة التركية مع إبداء مطلق الاستعداد للاستجابة لطلب تسليم فتح الله غولن، وذلك طبعاً وحصراً مع استيفاء الشروط المعتبرة.
فالكلام عن نية التمنع من تسليم غولن لا ينسجم مع طبيعة التحالف بين البلدين من جهة، في حين أنه يشكّل استفزازاً لأردوغان، والذي سوف يلجأ إلى التصعيد لا التهدئة، كما أنه يشكل مادة خصبة للتوظيف من جانب الإسلامية القطعية.
أردوغان قد عقد العزم على ما يبدو للقضاء على غولن. وهذا لا يخدم تركيا ولا الاستقرار العالمي، والمعالجة الحكيمة لهذا التهور هو أمر متوجب لا مفر منه. إلا أن الارتباك والسهو في إدارة هذه الأزمة من جانب الغرب عامة وواشنطن خاصة ليس من شأنه ضمان نجاة غولن كحركة وإنجاز، وإن نجح إنقاذه كفرد، ولكنه قد يؤدي، بما يقارب التأكيد، إلى تعزيز الطرح الإسلامي القطعي حول النفاق والخبث الغربيين. والمفارقة تكمن بأن الهدف الأول للقطعية الإسلامية في تركيا هو تحديداً جمهور «العدالة والتنمية»، فأردوغان يتضرر من تقدم القطعية بصفته رأس الدولة المستهدفة منها، كما لكونه زعيم الحزب الحاكم والذي تسعى القطعية جاهدة إلى استنزاف جمهوره. والتصور الأخطر هو أن يقضي أردوغان على غولن، وأن تقضي القطعية والفوضى على أردوغان.
على واشنطن إذن، بعيداً عن الفوقية والتعثر، أن تقنع أردوغان بأن التحالف بين تركيا والولايات المتحدة محكوم طبعاً بالقانون، ولكنه جدّي وندّي وصادق، قائم على القيم كما المصالح. فالقيم والمبادئ والالتزام بحكم القانون هي التي تقرر تسليم أي متهم، فلا تسليم خارجها، ولا تمنع عن تسليم معها. وقد لا تكون إعادة الثقة بين واشنطن وأنقرة أمراً محسوماً على الفور، غير أنه من التفريط بأمن تركيا والولايات المتحدة وعموم العالم السماح لهزات الثقة أن تتفاقم.
 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,173,676

عدد الزوار: 6,758,854

المتواجدون الآن: 121