بلاد مقسمة منذ الآن

يورام كانيوك

لن تكون دولتان لشعبين، لأننا تحولنا منذ زمن إلى شعبين لبلدين. فمن بلاد تل أبيب نحن نعرف عما يجري في عوفر (مستوطنة في الضفة الغربية) أقل مما نعرف عن الحياة في شيكاغو. نحن لا نسافر الى هناك. هم يأتون الى هنا بين الحين والاخر مع بنادق ام 16، كي ينشدوا نشيدا عبريا تعلموه ونحن نسيناه.
جدار الأمن نجح أكثر مما اعتقدنا. بلاد تل أبيب لا تنحصر في تل أبيب فقط ، فهي تضم نصف القدس المتواضعة وكل ما يمتد بين عسقلان وعكا. بلاد يهودا (جنوبي الضفة) تحكم يهودا، وتحكم أيضا ما كانت عليه مملكة اسرائيل قديما هنا وهناك. وحتى محرري صحف يهودا والسامرة (الضفة الغربية) يقومون بعملهم في تل أبيب. والتقسيم ليس جغرافيا. "مملكة يهودا" ترسخ وجودها على الارض الاسرائيلية المقدسة. وهي تعيش حيثما عاش العبريون، هم بنو اسرائيل قبل أن يصبحوا يهودا، الفي سنة. عبريتها قديمة ومصففة جدا بتأثير الكتابات العبرية التي يسمونها يهودية.
ثمة لـ "يهودا" حاضر يقظ، وماض مستنفد حتى قبل الفي سنة لم يكن له مستقبل. انظر يوسف بن متتياهو. لديها اصنام، وليس آلهة. هم عبدة اصنام وليس عبدة "يهوا" (إسم الله عند اليهود كما ورد في التوراة). مملكة تل أبيب تمتد على ما كان اساسا بلاد "الفلستيين" (مصطلح يُطلق على الفلسطينيين القدامى). الصهيونية، التي كانت حركة قومية علمانية، تحدثت باسم "صهيون" ولكنها وقعت في حب السهل الساحلي. الحركة الوطنية العربية هي الاخرى اغرتها مدن الشاطىء. اليهود والعرب على حد سواء اقسموا للقدس في اثناء النزاع المتواصل ولكنهم سكنوا بعيدا عنها.
دولة تل أبيب
عبرية دولة تل أبيب هي اليوم لغة هزيلة للغاية. موسيقى شعبية، مثلا، تسمى "موسيقى فولك"، و"وفولك" معناها بالالمانية "شعب". ناطقون بلسان دولة تل ابيب يسيرون في طريق ابائنا واجدادنا الذين اهملوا العبرية في صالح لغة الفرنجا في الزمن العتيق وانتقلوا الى الارامية. أنا أقرا حقا الصحافة اليهودية. فيها حكمة ومعرفة يهودية تقليدية وغير تقليدية أيضا، ولكن ليس فيها رحمة. ليس فيها اخلاق بل يد حديدية وما ليس قائما، وهم يسمون هذا "اخلاقا يهودية". يوجد هناك أنانية ضيقة الافق تولد حاجة الى السيطرة على شعب يجوز ظلمه برأيهم.
المحاكم في مدينتهم الكبيرة ،القدس، لن تحكم بعقوبة على يهودي ظهر في التلفزيون يطلق النار فيقتل عربيا في ظهره، لان العربي هو ملك مهجور. وعليه فليس لديه مشكلة مع اقتلاع اشجار الزيتون ويمكنه بهدوء أن يبصق على جيش اسرائيل، الذي في غياب وزير دفاع فخور بجيشه أو رئيس اركان عبري، مسموح لسكان البلاد الجبلية أن يسموا جنود تل أبيب "نازيين" وان يبصقوا عليهم ويخرجوا أنقياء. صحيح ، في الجيش يخدم عبرانيون أيضا. ولكن ليس لزمن طويل. الحاخامات يريدون رب الجيوش، ورب الجيوش لا يحمي وطنا بل أقسم على محو " العماليق"، الذين هم كل الشعوب في العالم باستثناء اليهود.
50 كيلو متر من جادة روتشيلد
كمن قاتل في القدس في سبيل قيام دولة يهودية في 1948، ليس لدي فكرة عما يحصل حقا في الجانب الاخر. في ذاك الخارج الذي يوجد على مسافة 50 كيلو متر من جادة روتشيلد. حكومة تل أبيب في غالبيتها الساحقة هي حكومة يهودية ومعظمها يسكنون في دولة تل أبيب.
الدولة التل أبيبية تعيش رغم الحكومة. رغم رئيس الوزراء. دولة تل أبيب تعج بالحياة. فهي تعيش وفق توقيتها الزمني الخاص. ضحلة جدا ولكنها حيوية. وهي رحيمة بالفعل ولكنها استبدلت الرحمة بطمأنينة المنتصرين: هي تعيش في بلاد "لا يهمني". وتعيل الدولتين، تخلق معرفة، ثقافة ومالا ايضا، ولكنها منقطعة عن الحماسة المثالية التي كانت تغلي في دماء ابائها. في دولة يهودا يعرفون حقا الايديولوجيا ولكن الايديولوجيا الذي حكمها هو أنهار الدم.

دولة يهودا
في العام 1949 قامت الكنيست الاولى على اساس وثيقة الاستقلال. جاء فيها انه في غضون وقت قصير سيسن دستور لاسرائيل. هيلل كوك وعاري جابوتنسكي انسحبا من الكنيست احتجاجا على أنها غير قانونية. بسبب بن غوريون واستسلامه للمتدينين توجد اليوم دولة تل أبيب، ولكن لا توجد فيها قومية اسرائيلية. بعد 61 سنة وصلنا الى دولة أبرتهايد دينية مع طرق لشعب واحد فقط وهي متطرفة مثل ايران. في دولة يهودا تسيطر دولة يمينية دينية متطرفة، تفرض الرعب على الدولتين معا ايضا.
كان مسموحا لليهود، الذين يعدون 0,2 في المائة من سكان العالم، و 27 في المائة من الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء، و 31 في المائة من الحائزين على جائزة نوبل في الطب، ان يكونوا اكثر ذكاء من "الفرسان الثلاثة": نتنياهو، باراك ويشاي، الذين يديرون هنا دولة بديلة لكل ما كان قبلهم.
في يوم من الأيام ، بعد نهاية هاتين الدولتين، اسرائيل ويهودا، سيقوم في العالم يهودي يكتب كيف أن بن غوريون، ذاك الرجل العظيم الذي عمل بكد شديد لاقامة دولة مع عشرة الاف بندقية، في حرب وحشية، ذُبح فيها 1 في المائة من عموم الييشوف اليهودي، كيف سمح ذاك الرجل لشعب اسرائيل المتجدد بالتنازل عن الدستور.
اغلبية في الدولتين تسعى لاقامة دولة شريعة في يهودا، وان كان من الافضل لمعظمهم السكن في قيساريا وليس في الخليل حيث دفن اباء الامة. لن تكون على ما يبدو حرب أهلية مثلما اعتقدت ذات مرة، لأنه لا يوجد من يقاتل فيها. "التل أبيبيون"، رغم قوتهم الكبيرة كمقاتلين في حروب اسرائيل، لن يخرجوا اليوم من فقاعتهم اللطيفة وسيواصلون الكلام بـ" العبرية المطعمة باللغة الانكليزية"، ولن يخرجوا من باب بيتهم لتغيير أي شيء. صحيح أنهم الاغلبية. ولكنهم لا يعرفون كيف يحصوا عددهم.
ليس لدي أي فكرة حول من سينجو من هذا الشرخ، الذي كما كتبت آنفا، لن ينتهي بحرب أهلية. الجيش الذي سيحمي المناطق في الضفة سيكون جيشا دينيا، يسيطر عليه الحاخامات. الجيش الذي سيحمي اغلبية اجزاء البلاد سيكون اسرائيليا وسيجلب السلام علينا وعلى كل الاسرائيليين، وسنقول آمين. دولة خلقها العلمانيون وسيطر على جزء منها المتدينون المسيحانيون. سيحميهم هناك المسيح الذي ينتظرونه ولا يأتي وذلك لان المسيح اليهودي ليس من لحم ودم.

("هآرتس"- ملحق الاسبوع - 22/1/2010)
ترجمة: عباس اسماعيل