الاستقلال بين وحدة اللبنانيين والتدخلات العربية والأجنبية وثائق تنشر للمرة الأولى

تاريخ الإضافة الإثنين 19 تشرين الثاني 2012 - 6:13 ص    عدد الزيارات 1741    التعليقات 0

        


 
الدكتور حسان حلاق

الاستقلال بين وحدة اللبنانيين والتدخلات العربية والأجنبية وثائق تنشر للمرة الأولى

 

 

1- مواقف اللبنانيين في سبيل وحدة واستقلال لبنان
 

بعد انتخاب الرئيس بشارة الخوري رئيساً للجمهورية في 21 أيلول 1943، اختار الزعيم اللبناني الرئيس رياض الصلح رئيساً للوزراء. وفي 25 أيلول 1943 تم تشكيل الوزارة، التي تمثلت فيها كل الطوائف الدينية، أكثر مما تمثلت الاتجاهات السياسية. وذكر الرئيس بشارة الخوري أنه ارتؤي اختيار وزيرين من الكتلة الوطنية هما جورج زوين وجبرائيل المر، غير أن الرئيس اميل اده رفض إشراكهما في الحكم. وفي 7 تشرين الأول 1943 عقد المجلس النيابي جلسة ألقى فيها رياض الصلح بيانه الوزاري، وقد حرص كل من الوزير البريطاني المفوض سبيرز وقنصل مصر أحمد رمزي بك على حضور هذه الجلسة. وأشار الصلح في بيانه إلى أسلوب الحكم في المستقبل وضرورة تعديل الدستور وإلغاء الطائفية والقضاء على مساوئها لأنها تسمم روح العلاقات بين الجماعات الروحية التي يتألف منها الشعب اللبناني، كما ركز على علاقة لبنان بالبلدان العربية لاسيما الدول المجاورة. واعتبر أن إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الوطنيون، نحن لا نريده للاستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً. وكان لهذا البيان أثر كبير على فئات الشعب، لأنه أوجد طريقة نحو الاستقلال وتوحيد الصفوف، كما أنه اعتبر بمثابة اتفاق بين المسلمين والمسيحيين على عدد من المبادئ الأساسية. وبعد تلاوة البيان الوزاري ناقشه النواب، ومما قاله النائب كمال جنبلاط: إِن استقلال لبنان الحديث مهم جداً من الناحية الحقوقية والدولية، لأنها لأول مرة في تاريخه يعترف أهل لبنان الكبير بلبنان مسلميه ومسيحييه ودرزييه وشيعييه. ثم حيا وأيّد العهد الجديد لصبغته العربية "لأن العروبة وحدها كانت تكفل لهذه البلاد الوحدة القومية والاستقلال المصان". ثم تحدث بعد ذلك كل من النواب: كاظم الخليل وأديب الفرزلي وسواهما وانتهت الجلسة بإعطاء الحكومة الثقة.
والحقيقة أن الحكومة اللبنانية عقدت عزمها منذ البدء على تقليص النفوذ الفرنسي بتعديل الدستور اللبناني، بما يضمن استقلال لبنان عن فرنسا، فسعى رياض الصلح أولاً إلى صبغ لبنان بالصبغة العربية فأصدر تعميماً وزع على مختلف الدوائر الرسمية طلب فيه استخدام اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة للبلاد.

 

معركة تعديل الدستور

وفي 16 تشرين الأول 1943 أصدر رئيس الوزراء أوامره باستبدال الأوامر العسكرية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، كما تألفت لجنة خاصة لوضع المصطلحات اللازمة لأفراد الدرك والشرطة باللغة العربية. وبالإضافة إلى ذلك قرر رئيس الوزراء فتح مدرسة ليلية لتعلم الموظفين الذين لا يتقنون العربية مبادئ هذه اللغة. وكانت أول نتيجة لاستخدام اللغة العربية في المعاملات الحكومية تعطيل عمل المستشارين الفرنسيين الذين لم يعد بوسعهم أن يشتركوا في الإشراف والمراقبة على سير إدارات الدولة، كما عارض "جان هللو" (J.Helleu) استخدام العربية مكان الفرنسية، لأن ذلك يعتبر مخالفاً لصك الانتداب، ومخالفاً لنصوص الدستور اللبناني، كما أن صك الانتداب لا يخول لبنان حق تعديل الدستور منفرداً.
وتشير وثائق وزارة الخارجية الفرنسية السرية، الى أنه في 5 تشرين الثاني 1943 أذاعت "اللجنة الوطنية الفرنسية" بلاغاً عارضت فيه الحكومة اللبنانية عزمها على تعديل الدستور اللبناني. وتلقى الصحافيون اللبنانيون دعوة من مدير قلم المطبوعات الفرنسي للحضور إلى دائرة المطبوعات لإعلامهم بذاك البلاغ ونشره في صحفهم من دون مناقشته، سواء في الاجتماع معه أو على صفحات الصحف. كما أن المسؤول العسكري الفرنسي المسيو "دافيد" (David) سلم البلاغ عينه إلى رئيس الوزراء، الذي أنكر حق فرنسا في التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. كما أن بعض الصحف اللبنانية أيضاً أشارت إلى حق لبنان بتعديل دستوره. غير أن مجلس الوزراء أصدر بلاغاً بعد ظهر 5 تشرين الثاني اعتبر فيه أن تعديل الدستور حق من حقوق السلطات الدستورية اللبنانية وفقاً لأحكام المادة (76) وما يليها من الدستور، ثم قدم مجلس الوزراء للمجلس النيابي مشروع تعديل الدستور في بعض مواده، التي، لو استمرت، تتعارض مع استقلال لبنان. ومن جهتهم فإن الفرنسيين حاولوا إقناع رياض الصلح بالعدول عن تنفيذ قرار تعديل الدستور. ولكنه رفض طلبهم، فما كان منهم إلا أن حاولوا إقناع (17) نائباً بالتغيب عن جلسة تعديل الدستور التي حُدّدت في 8 تشرين الثاني ،1943 وذلك لتعطيل نصاب الجلسة. كما أن المفوضية الفرنسية أظهرت من خلال هذه الممارسات أنها غير راغبة إطلاقاً في إنهاء انتدابها على لبنان. ورأى كاترو أن أقصى ما تسمح به المفوضية هو إبدال الانتداب بمعاهدة تستوحى من بنود اتفاق 1936. كما سعى بعض كبار الموظفين الفرنسيين في المفوضية الفرنسية مثال بار، دافيد، شاتينيو، إلى إقناع بعض النواب بعدم القبول بتعديل الدستور، وبممارسة الضغوط عليهم أحياناً.
وفي 8 تشرين الثاني اجتمع 12 نائباً في مكتب الرئيس اميل اده، الذي اتصل بمدير الأمن العام "غوتيه" وأخبره "أن الجماعة حضروا"، فما كان من غوتيه إلا أن طلب منهم عدم حضور جلسة تعديل الدستور، لكن عدداً من النواب رفضوا طلبه وأصروا على حضور الجلسة وإقرار التعديل رغم التهديد الفرنسي لهم. والحقيقة أن المجلس النيابي كان في هذه الفترة ينقسم إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تتصرف بوحي من وطنيتها اللبنانية، ومجموعة تتصرف بوحي من السياسة الفرنسية، ومجموعة ثالثة تصرفت بوحي من السياسة البريطانية. وقد صرح النائب أحمد الحسيني الموالي لاميل اده بالقول: "لا أريد أن أستبدل سيداً بسيد ودولة منتدبة عرفناها بدولة منتدبة (بريطانيا) نعرف عنها الشيء الكثير".
وفي الثاني من تشرين الثاني 1943 عقد المجلس النيابي جلسته وتغيب عنها النواب: أيوب ثابت، وأحمد الحسيني ودركالوسيان. ولما عرضت الحكومة مشروع التعديل على المجلس طلب اميل اده وجورج عقل وأسعد البستاني وأمين السعد إحالة المشروع على لجنة برلمانية لدرسه وتأجيل التصويت عليه ريثما تنهي اللجنة مهمتها. ولكن الأكثرية النيابية رفضت الاقتراح وصدق (48) عضواً على مشروع التعديل مادة مادة، فانسحب اميل اده وأمين السعد احتجاجاً، أما بقية المعارضين فرفضوا التصويت. وتناول التعديل المواد: (1) و(11) و(52) و(90) و(91) و(92) و(93) و(94) و(95) و(102) وقضت التعديلات بإلغاء المواد والفقرات المتعلقة بالانتداب والدولة المنتدبة، كما أنها جعلت اللغة العربية لغة رسمية وحيدة في لبنان. وعلى الفور وقع رئيس الجمهورية على مشروع التعديل، ونشر في اليوم الثاني في الجريدة الرسمية، ليصبح نافذ المفعول. وإزاء هذا التعديل ساءت العلاقات بين المفوضية الفرنسية والحكومة اللبنانية، وكان من المتوقع أن تقوم السلطات الفرنسية باعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة مساء اليوم عينه، غير أن وصول ملك يوغوسلافيا بطرس الثاني إلى بيروت حال دون إتمام ذلك لانشغال الفرنسيين باستقباله. وفي اليوم التالي وصل هللو إلى بيروت، وبالرغم من أنه وعد السفير البريطاني سبيرز بأنه لن يقدم على أي عمل، فإذا به صدر في اليوم عينه قراراً ثانياً يحمل الرقم (F.C/) عين بموجبه اميل اده رئيساً للجمهورية وللحكومة.

 

اعتقال الاستقلاليين

وفي ليل 10-11 تشرين الثاني بدأت السلطات الفرنسية عملية اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ثم الوزراء: سليم تقلا، كميل شمعون، عادل عسيران، والنائب عبد الحميد كرامي ونقلوا جميعاً إلى قلعة راشيا. وذكر سبيرز وزوجته تفصيلات عن هذه الحادثة، فعندما اعتقل الفرنسيون بشارة الخوري اعتقلوا معه نجله ووضعوه في السرداب وأخذوا يوجهون إليه إهانات كقولهم: "ابن الكلب، ابن الإنكليزي"، وأكد بشارة الخوري نفسه هذه الحادثة. ولما حاول الرئيس اميل اده تشكيل حكومة لمساعدته في إدارة البلاد رفض كل السياسيين مشاركته الحكم، ولما حاول إشراك بعض المديرين العامين أعلنوا أيضاً رفضهم الاشتراك في الحكم وأصدروا بيانات بهذا الخصوص. بينما كان اميل اده لا يستطيع في هذه الفترة الخروج إلى الشوارع إلا بحماية الدبابات والسيارات العسكرية. ولذا حاول هللو تهدئة الأوضاع بإسناد رئاسة الوزراء إلى سامي الصلح – إِبن عم رياض الصلح - غير أنه رفض هذا العرض قائلاً: "إني ملتزم موقف رفاقي وإني أصر على استقلال البلاد وإخلاء سبيل المعتقلين فوراً...".
والحقيقة، أن من إيجابيات حادثة اعتقال المسؤولين اللبنانيين أن هذه الحادثة استطاعت أن توحد اللبنانيين للمرة الأولى، ولو بشكل موقت. فقد اجتمع في 11 تشرين الثاني محيي الدين النصولي، الرئيس الأعلى لحزب النجادة وبيار الجميل، الرئيس الأعلى لحزب الكتائب، واتفقا على توحيد الجهود بقيادة بيار الجميل على أن يعاونه مندوبان من النجادة. وفي اليوم اياه اجتمع مجلس النواب برئاسة صبري حماده وحضور الحكومة المؤقتة – المؤلفة من الوزيرين مجيد ارسلان وحبيب أبو شهلا – فأوضح رئيس المجلس النيابي أنه أرسل مذكرات عن الوضع الراهن إلى كل من: سبيرز وودسورث وتحسين قدري (القائم بأعمال المفوضية العراقية) وأحمد رمزي (القائم بأعمال المفوضية المصرية). وبعد التداول في الوضع الراهن منح مجلس النواب ثقته بالإجماع لممثلي الوزارة وطالب بإطلاق سراح المعتقلين، كما قام بتعديل المادة الخامسة الخاصة بألوان العلم اللبناني، فأجرى عليها تعديلات بحيث غابت عن العلم السمات والطابع الفرنسي.

 

2- ردود الفعل اللبنانية على تطورات تشرين الثاني 1943

في 12 تشرين الثاني 1943 اجتمع (34) نائباً في منزل النائب صائب سلام، واتخذوا جملة قرارات لدعم الحكومة، واعتبروا أن الدستور اللبناني ما يزال قائماً، وأن حكومة اميل اده غير شرعية. كما عدّل شكل العلم اللبناني، وتم التوقيع عليه من الحاضرين، وفي الوقت عينه عقد مؤتمر وطني في بيروت للبحث في ما يجب اتخاذه، وقد تم انتخاب لجنة تنفيذية لمتابعة الموضوع. واستنكر المؤتمر "الإجراءات الاستبدادية الصادرة عن مندوبية لجنة فرنسا"، واعتبر أن الحكومة الشرعية هي وحدها من دون سواها صاحبة الحق للتكلم والمفاوضة باسم لبنان. ويبدو أن الاتجاهات السياسية التقليدية في لبنان ظلت تسيطر على عقلية بعض الزعامات السياسية التي استمرت في استغلال الأحداث التي مر بها لبنان، فقد جمع المؤتمر الوطني ما يقارب (120) ألف ليرة لبنانية لدعم حركة المعارضة ضد الانتداب الفرنسي، ولكن هذه الأموال وزعت على بعض من تسلمها. وذكر حبيب ربيز – أحد أعضاء المؤتمر الوطني – هذه الحقيقة بقوله، "لا يعلم غير الله كيف أنفقت، وأنني أضن بكرامة البلاد فأترفع عن ذكر الطرق التي اتبعها بعض من يدعي النزاهة والوطنية في تبديد هذه الأموال".
وكان طلاب مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية والجامعة الأميركية يتظاهرون ضد السلطة الفرنسية، وقد استشهد منهم الطالب فؤاد مخزومي وجرح الطالب هاني غندور، كما جرح ابن وزير التموين في سوريا. ثم قام بعض المتظاهرين بنزع صور ديغول وأبقوا على صور ستالين لإغاظة الفرنسيين، بالإضافة إلى أن مفتي الجمهورية اللبنانية محمد توفيق خالد والمطران الماروني اغناطيوس مبارك وصلا إلى منزل سبيرز، طلبا منه الدعم والتأييد، ثم طلب منه المطران مبارك باسم المسيحيين التدخل المسلح، وكان حينذاك يهتز بشيء من السخط والهياج. كما شاركت المرأة اللبنانية بعدد من التظاهرات منددة بالفرنسيين، طالبة من سبيرز إرسال برقية احتجاج باسم المرأة اللبنانية إلى رئيس وزراء بريطانيا. واطلعت اللايدي سبيرز من إحدى السيدات اللبنانيات على أهداف الفرنسيين في لبنان فقالت: إن المعلمين في المدارس الفرنسية يلقنون الأطفال أنه إذا غادر الفرنسيون البلاد، فعندئذ يفتك المسلمون بجميع المسيحيين. ولابد في هذا الصدد من أن نذكر ما أقر به الجنرال كاترو، بأن ما أقدم عليه المفوض جان هللو وحد لبنان كله ضد فرنسا في ليلة واحدة. وبدأت الحركة الشعبية ضد السلطة الفرنسية في منطقة البسطة في غربي بيروت ثم ما لبثت أن امتدت إلى الجميزة وجوارها من شرقي العاصمة. وبالفعل فقد كانت حوادث العام 1943 فرصة ليحقق اللبنانيون أمانيهم، خاصة أن الرأي العام أخذ يتقارب كثيراً، وبدأ اللبنانيون ينسجمون ويتوافقون، وإن كانت فرنسا حاولت تشتيت صفوف اللبنانيين على أمل إيجاد حوادث تمكنهم من استمرار انتدابهم. وكان محمد جميل بيهم اقترح في اجتماع المؤتمر الوطني في 13 تشرين الثاني 1943، إرسال وفد من المؤتمرين لمقابلة البطريرك الماروني انطون عريضة لاطلاعه على تطورات الموقف قبل أن يتصل به عملاء فرنسا. فما كان من النائب فريد الخازن إلا أن ترك مقعده واقترب من محمد جميل بيهم وقال له: إن عمال الانتداب سواء أكانوا من الفرنسيين أو من اللبنانيين سرعان ما تسلقوا الجبال إلى الديمان، قبل أن يعقد المؤتمر جلسته وشرعوا ينذرون غبطته بسوء المصير. وبالفعل فإن السلطة الفرنسية وجماعة الرئيس اده حاولتا إقناع البطريرك بأن حركة المقاومة الشعبية ليست إلا حركة إسلامية، يقصد منها طغيان العناصر الإسلامية وإِضعاف العناصر المسيحية. غير أنه، بالرغم من أن المسلمين هم الذين اتخذوا زمام المبادرة بمحاربة الفرنسيين وأساليبهم، لكن الوفود المسيحية بدأت تنهال على مقر البطريركية المارونية لتؤكد بأن الثورة ليست ثورة إسلامية، إنما هي ثورة لبنانية يشترك فيها معظم اللبنانيين. وأكد ذلك للبطريرك الوفد المؤلف من: الأمير رئيف أبي اللمع، د. يوسف مزهر، أسعد بولس، ادمون طرابلسي، أسعد يونس، واسكندر مزهر.

 

توحيد الموقف
 

وعن موقف المسلمين والمسيحيين من فرنسا تشير وثائق وزارة الخارجية البريطانية السرية الى أن الوزير البريطاني المفوض سبيرز أرسل رسالة سرية إلى وزارة خارجيته في 17 تشرين الثاني 1943 أوضح فيها كيف أن المسلمين والمسيحيين يكرهون فرنسا رغم أنها استغلت المسيحيين بتقريبهم إليها، ومنحتهم الامتيازات بحجة تخوفهم من المسلمين. وأضاف أنه في خلال عشرين عاماً كان الفرنسيون قد سيطروا على البلاد سيطرة تامة "وحكموا البلاد بإعطاء الموارنة امتيازات تميزوا بها عن سواهم من الطوائف... وعندما أحس الفرنسيون بأن الموارنة والمسلمين يكرهونهم شعروا بالمرارة والألم...". ولما شعر الفرنسيون بفشل مساعيهم مع البطريرك الماروني عمدوا إلى بث الفتن الطائفية، وبذلوا جهودهم لحصر نطاق الثورة في المناطق الإسلامية لتأكيد وجهة نظرهم القائلة بأنها ثورة إسلامية. ثم بدأت السلطات الفرنسية ببث الشائعات المغرضة بين الفئات الإسلامية والمسيحية، التي اتخذت طابعاً. غير أن الحكومة الشرعية المؤقتة في بشامون نفت هذه الشائعات، وبدأت يجمع الشباب الوطني من مختلف الطوائف برئاسة الأمير مجيد ارسلان لمقاتلة الفرنسيين. وأكدت بيانات الحكومة المؤقتة احتدام المعارك بين الجانبين الفرنسي واللبناني.
أما في ما خص الصحافة اللبنانية فقد كانت منقسمة إلى اتجاهات سياسية عدة، فبعضها مؤيد للفرنسيين والآخر معاد لهم، وكانت صحيفة "صدى الأنصار" من بين الصحف المعادية لفرنسا، وكان عبد القادر نجيب عيتاني أحد أصحابها، قد غضب كثيراً من نسيبه خليل عيتاني لأنه وقّع على تعهد يقضي بعدم نشر أخبار جلسة تعديل الدستور، غير أن هذه الصحيفة لم تتقيد بالتعهد، بل نشرت تفاصيل الجلسة، وكان عبد القادر وحسن عيتاني أبديا استعدادهما لتحمل نتائج نشر نص التعديل. وإزاء نشر التعديل، أمرت السلطة الفرنسية بقفل مطابع الصحيفة. ثم اعتقلت حسن عيتاني واتهمته بمخالفة القوانين واستغلال صحيفته لأهداف سياسية، ثم أبعد إلى منطقة حلوان بمصر، وبعدما قضى شهوراً في مصر نقل إلى منطقة "المية ومية" قرب جزين في جنوب لبنان.
ومن ناحية ثانية كانت بعض الصحف اللبنانية تدعم السلطات الفرنسية في موقفها ضد اللبنانيين، ومن بين هذه الصحف: البيرق، البشير، صوت الأحرار، والشرق (L’Orient) وسورية (La Syrie) الصادرة باللغة الفرنسية. وقد تعرضت هذه الصحف لغضب المتظاهرين الذين رموها بالحجارة، والقنابل، مما اضطرها إلى القفل. ولكن قفل السلطة لأربعين صحيفة كان أمراً صعباً على اللبنانيين المعادين لفرنسا، ولذا قرر "الشباب الوطني اللبناني" إصدار صحيفة لا تحمل اسماً أو عنوانًاً سوى علامتي استفهام (؟؟) وأصبح اسمها صحيفة "علامة الاستفهام". وبسبب الصعوبات المالية والأمنية طلبت الصحيفة من "المواطن الكريم" قراءة العدد وإعطاءه لسواه كي يقرأه، ذلك "إن المجهود لطبع هذا العدد كبير والصعوبات كثيرة. لذلك نرجو أن تقرأ العدد وتعطيه لغيرك فتكون قد ساهمت بالواجب". ونظراً لأهمية صحيفة "علامة الاستفهام" في توعية المواطن اللبناني وإزعاجها للسلطات الفرنسية، قامت هذه السلطات بتشويه دورها، فأصدرت صحيفة مزورة تحمل الشعار نفسه كي تضلل المواطنين، كما أصدرت صحيفة أخرى باللغة الفرنسية وتحمل أيضاً "علامة الاستفهام". وكانت الطبعتان العربية والفرنسية تطبعان في المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين وتوزعان بكثرة في أنحاء لبنان وتحملان حملة شعواء على الحركة الوطنية ورجالها. وكان رد الحركة الوطنية سريعاً فأصدرت نشرة باللغة الفرنسية، كما ردت صحيفة "علامة الاستفهام" الوطنية على الصحيفة المزورة مهاجمة أسلوبها، طالبة من المواطنين التمييز ما بين الصحيفتين، وذلك بأن وضعت الحركة الوطنية على صحيفتها عبارة "يسقط الخائن إده" لإحراج الصحيفة المزورة وتمييزها عن الصحيفة الوطنية. وعن هذه العبارة قالت الصحيفة الوطنية" متى قالوها في "علامة استفهامهم" فإننا نقفل علامة استفهامنا".

 

3- ردود الفعل العربية والدولية على تطورات تشرين الثاني 1943

وفي ما خصّ بموقف الدول العربية من أزمة تشرين الثاني 1943، استطاعت التحرك لدعم موقف لبنان إما بإيحاءات بريطانية او من منطلقات عربية. فبعد اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء قامت التظاهرات الصاخبة في سوريا والعراق ومصر وفلسطين. كما قام تحسين قدري – القائم بالأعمال العراقي في بيروت – بإرسال مذكرة إلى جان هللو أكد فيها أن ما قام به يعتبر عملاً شاذاً، وأن العراق، حكومة وشعباً، يحتج بشدة على العمل الذي قامت به فرنسا في لبنان. أما الملك فاروق – ملك مصر – فأرسل رسالة إلى رئيس الجمهورية تسلمتها الحكومة المؤقتة في بشامون أيد فيها قضية لبنان ومما قال فيها: "... إننا لواثقون بأن الشعب اللبناني بالغ في ظل الكرامة والحرية والشرف ما هو جدير به من سيادة ومجد، ولست في حاجة لأن أؤكد لفخامتكم أن الشعب اللبناني يستطيع أن يعتمد على صداقتنا وصداقة حكومة وشعب مصر في ساعات الشدة والحرج التي تمر به" وفي 13 تشرين الثاني، وهو عيد الجهاد الوطني في مصر، ألقى مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء المصري خطبة ندد فيها بالفرنسيين، وحيا فيها الحركة اللبنانية الاستقلالية، وطالب الدول العربية بدعم القضية اللبنانية، كما قدم مذكرة للجنرال ديغول قال فيها "... فإذا لم تعد الحالة في لبنان إلى وضعها المنطقي، فإن مصر تعيد النظر في موقفها من فرنسا على ضوء الحوادث الجارية". كما أن الشعب المصري بكل فئاته، لا سيما الفئات المثقفة من طلاب جامعيين وثانويين، قد قام بتنظيم تظاهرات صاخبة تأييداً للبنان وتجاوباً مع إخوانهم الطلاب اللبنانيين. وكان الجنرال كاترو وصل إلى القاهرة في 15 تشرين الثاني، ورفض في البدء زيارة النحاس باشا. أما مباحثاته مع كيزي (Casey) – المعتمد البريطاني للشرق الأوسط – فانتهت إلى إصرار كاترو على استمرار الانتداب الفرنسي، وركز على آثام الجنرال سبيرز الذي ينبغي أن يستدعى إلى بلاده جنباً إلى جنب مع المفوض هللو.
وعن الموقف السوري بدأت حركة تظاهرات واسعة النطاق مؤيدة للبنان، وكانت الحكومة السورية برئاسة سعد الله الجابري تراقب الوضع اللبناني، ثم ما لبثت أن وجهت إنذاراً إلى كاترو في 21 تشرين الثاني طالبت فيه بإرجاع الحياة الدستورية إلى ما كانت عليه في لبنان "وإلا تتحملون وحدكم المسؤوليات"، كما أبرق الملك عبد العزيز آل سعود، ملك السعودية، إلى الحكومتين الأميركية والبريطانية محتجاً على سياسة الفرنسيين، ووقف اليمن وشرقي الأردن إلى جانب لبنان، وأرسل الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن رسالة إلى البطريرك الماروني أيد فيها لبنان ضد الممارسات الفرنسية. ونظراً للمواقف العربية المؤيدة للبنان، اتخذت السلطات الفرنسية قراراً يمنع دخول الصحف العربية إلى لبنان، غير أن هذا القرار لم يمنع تسرب بعض الأعداد، لا سيما من فلسطين إلى الداخل.

 

القضية اللبنانية

والجدير بالذكر أن القضية اللبنانية تعدى نطاقها من الصعيد اللبناني والعربي إلى الصعيد الدولي، ففي ضوء وثائق وزارة الخارجية البريطانية السرية، فإن أزمة تشرين الثاني لم تكونا أزمة محلية بقدر ما كانت أزمة إيديولوجية سببت صراعاً دولياً بين الدول الكبرى. وعندما حدثت أزمة تشرين الثاني أرسل الجنرال سبيرز مذكرة إلى المفوض هللو في 11 تشرين الثاني احتج فيها على اعتقال أركان الدولة، كما وصل في 13 تشرين الثاني من القاهرة إلى بيروت "كيزي" – المعتمد البريطاني للشرق الأوسط – وعقد اجتماعات عدة لبحث الأزمة اللبنانية مع مفتي الجمهورية الشيخ محمد توفيق خالد ومع مطران بيروت الماروني أغناطيوس مبارك ومع السيدة فايزة الجابري قرينة الرئيس رياض الصلح، ومع النائبين هنري فرعون ويوسف سالم كما كان هدف كيزي من وصوله إجراء مباحثات مع الجنرال سبيرز للبحث في ما فعله الفرنسيون في لبنان. أرسل كيزي تلغرافاً لوزارة الخارجية البريطانية بالمعلومات التي أمده بها سبيرز. وكان سبيرز نفسه أرسل إلى وزارة خارجيته في 13 تشرين الثاني معلومات أوضح فيها موقف اللبنانيين المسلمين والمسيحيين على السواء لا سيما موقف المفتي محمد توفيق خالد ومطران بيروت أغناطيوس مبارك الذي أوضح لسبيرز بأن كل الطوائف المسيحية في لبنان والتي كانت صديقة لفرنسا، لم تعد تستطيع الإبقاء على هذه الصداقة بشكل أكثر، كما أشار المطران الى أن هناك اتفاقاً تاماً بين المسلمين والمسيحيين.
وفي اليوم عينه أيضاً تلقى "رينيه ماسيغلي" (R. Massigli) – وزير الخارجية في اللجنة الوطنية لفرنسا الحرة – مذكرة من روجر ماكنز (R. Makins) الوزير البريطاني، جاء فيها "إن حكومة صاحب الجلالة لا يمكنها بوجه من الوجوه أن توافق على خطورة الحالة في الشرق، ولا أن تهضم وقوع اضطرابات جديدة أثناء الحرب. والحكومة ترى ضرورة تدخلها عسكرياً لإعادة الهدوء إلا إذا سحبت فرنسا مندوبها هللو وأطلقت سراح المعتقلين". وتلاحظ، من خلال هذه المذكرة، حدة الصراع والتنافس البريطاني – الفرنسي على لبنان، بحيث وصل إلى إمكان التدخل العسكري البريطاني. وفي الوقت إياه كان الجيش التاسع البريطاني قد وزع في لبنان إعلاناً مهماً جاء فيه: إن السلطات البريطانية لا تؤيد اعتقال الحكومة اللبنانية، وإن البريطانيين سيحافظون على الوعود التي قدمت عندما انتزعت البلاد من القوات الفيشية.
والحقيقة فإن بريطانيا فكرت جدياً بإرسال قوات بريطانية إلى لبنان لمواجهة الجيش الفرنسي ولترسيخ نفوذها، ورأت إرسال قوات من الهند إلى لبنان لتحقيق هذه الغاية، ولكن المشكلة الخطيرة التي واجهت بريطانيا تساؤل المسؤولين فيها: كيف يمكن إقناع الجنود المسلمين الهنود بالتوجه إلى لبنان والمنطقة التي غالبية سكانها من المسلمين، إذ أنهم يعتقدون أنهم سيقاتلون سكاناً من المسلمين؟ وكشفت وثيقة بريطانية سرية عن هذا الاتجاه وهذا الموضوع إذ أن إدارة الهند (India Office – White Hall) أرسلت رسالة سرية إلى "أنتوني إيدن" وزير الخارجية البريطانية في 17 تشرين الثاني 1943 مرفقة ببرقية مرسلة إلى الحاكم البريطاني في الهند بشأن لبنان وإمكان استخدام القوات الهندية فيه، مؤكداً أنه "من الواضح من برقيات الحاكم السابق ومن التي تسلّمتها اليوم أن هناك شعوراً قوياً لدى المسلمين الهنود، فإذا كان علينا استعمال القوات الهندية في لبنان فعلينا أن نهيئ الرأي العام المسلم في الهند، وإعلامه بأن هذه الخطوة هي فقط لإفشال المخططات الفرنسية في لبنان وللمحافظة على الأمن فيه". وطلبت إدارة الهند من وزير الخارجية أن يسمح لها بإرسال نسخة من هذه البرقية إلى الزعماء المسلمين الهنود عندما تستدعي الحاجة. كما طلبت الإدارة أنه إذا كان استخدام القوات الهندية ضرورياً، فمن الأفضل أن يقوم كيزي أو ويلسون بالإعلان عن هذا العمل لأنه يخفف من ردود فعل المعارضين في الهند. "غير أن المخاطرة تكون في وقوع الاضطرابات في لبنان مما سيفرض علينا التدخل للمحافظة على الأمن، ومن دون أية سياسة معلنة من جانبنا بشأن الأزمة".
ويلقي هذا التقرير المهم الضوء على السياسة الإسلامية للحكومة البريطانية، ويظهر مدى تخوفها من اعتراضات الجنود المسلمين العاملين في خدمة التاج البريطاني على اشتراكهم في عمليات عسكرية، قد يرونها موجهة ضد جماعات إسلامية. ولكن بريطانيا كانت مضطرة من ناحية أخرى إلى ترتيب أوضاعها للتدخل في لبنان "من دون أية سياسة معلنة" في حال وقوع واستمرار الاضطرابات. ومن أجل هذا الوضع وبعد مزيد من الاتصالات بين مختلف القنصليات والسفارات والمراكز البريطانية والحكومة البريطانية بشأن الأزمة اللبنانية، تقرر أن يعود المعتمد البريطاني كيزي من القاهرة إلى بيروت التي وصلها فعلاً في 16 تشرين الثاني، واجتمع بالجنرال كاترو وسلمه بحضور الوزير المفوض سبيرز إنذاراً من بريطانيا والحلفاء تضمّن أنه في حال عدم إنهاء الأزمة فإن الجيش البريطاني مضطر للتدخل العسكري لتوطيد الأمن وإعادة الأوضاع اللبنانية إلى طبيعتها، وأن حكومة صاحب الجلالة قد أطلقت يد وزير الدولة البريطاني (كيزي) في حرية التصرف وإعلان الأحكام العرفية في لبنان، وتسلم قائد الجيش التاسع مهمة الأمن، وأنه إذا لم يخل سبيل رئيس الجمهورية والوزراء قبل الساعة العاشرة من صباح الاثنين 22 تشرين الثاني فإن الجيش البريطاني يتولى هذه المهمة "ونحن نؤكد أن تدخل بريطانيا ليس له هدف خاص أو إبدال نفوذ فرنسا بنفوذ بريطاني". وفي 21 تشرين الثاني تسلم سبيرز برقية من كيزي عالج فيها الموقف اللبناني، كما أشار إلى مسؤولية الإنكليز الدولية حيال الوضع الراهن في لبنان.

 

محاولة اغتيال سبيرز

وكانت أجهزة الإعلام الفرنسية بدأت تتهم البريطانيين بأنهم يعملون للسيطرة على سوريا ولبنان، وأن سبيرز هو المحرك الأول في المؤامرة البريطانية"، ورأى الفرنسيون أنهم إذا تخلصوا من سبيرز فعندئذٍ يصبح كل شيء على ما يرام في لبنان، ولهذا فإنهم حاولوا اغتياله ولكنهم فشلوا في تحقيق ذلك. وذكر كاترو أن سبيرز كان طموحاً ويود أن يصبح الرجل الأول الذي يكون له الفضل التاريخي في إزاحة فرنسا عن الشرق، لا سيما أن الشرق العربي كان تحت سيطرة بريطانيا العسكرية "غير أنه لم يرد أن يقلد النازية فيدوس فرنسا علناً"، كما ذكّر بانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، فأوضح أن سبيرز أسهم كثيراً في دعم لائحة بشارة الخوري تحت ستار إنقاذ البلاد من الفرنسيين وإعطاء اللبنانيين استقلالهم، كما اتهم مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر ونوري السعيد رئيس وزراء العراق بأنهما ساعدا سبيرز في هذا الموضوع، وقد تعهد بشارة الخوري يومذاك مقابل هذا التأييد أن يسير في ركاب السياسة البريطانية والعربية، على قول كاترو.
شعر كاترو بأن الصراع ليس بين الفرنسيين واللبنانيين والدول العربية بقدر ما هو صراع بين الفرنسيين والإنكليز، وقد أثبتت الأحداث والتطورات السياسية وموقف بريطانيا صحة ذلك. وفي هذه الفترة تساءل ونستون تشرشل (W.Churchill) (رئيس الوزراء البريطاني) عن سبب إقدام فرنسا على حركة اعتقال أركان الدولة، وكيف يمكن لها أن تفسر رغبتها في إجلاء الألمان عن أراضيها وهي تبشر بالاستعمار في غير بلادها؟ ورأى أن الحل يكمن في تدخل بريطاني – أميركي لحل الأزمة التي "خلقت لنا الفرصة السانحة أمام الرأي العام العالمي لنبحث جدياً أمر ديغول ولنوقفه عند حده". ورأى تشرشل ضرورة إطلاق سراح رئيس الجمهورية وبقية المعتقلين "فإذا رفض ديغول هذا الحل نبادر إلى إلغاء اعترافنا باللجنة الوطنية الفرنسية ووقف القوى العسكرية الفرنسية الموجودة في أفريقيا. وقد أصدرت أوامري للجنرال ويلسون لأن يكون على استعداد لفرض النظام والهدوء في لبنان".
والجدير بالذكر أن الأميركيين تعاونوا مع البريطانيين والدول العربية، لإنهاء الأزمة اللبنانية لأن ذلك يضاعف من نفوذهم في الأوساط اللبنانية. ووجد الأميركيون فرصة سانحة لإبداء معارضتهم للفرنسيين عندما تعرض طلاب الجامعة الأميركية في بيروت لنيران الجنود الفرنسيين وجرح منهم أكثر من عشرة طلاب، الأمر الذي أدى إلى إدخال جنود أميركيين إلى بيروت بحجة حماية الجامعة الأميركية والمفوضية الأميركية أيضاً. وفي منتصف شهر تشرين الثاني 1943 أرسلت الولايات المتحدة مذكرة إلى اللجنة الفرنسية في الجزائر تضمنت تحذيرات شديدة اللهجة وتهديدات في حال استمرار التعنت الفرنسي الذي لن يضر بفرنسا ولبنان فحسب، وإنما بجميع دول الحلفاء الذين لا يريدون الانشغال عن الحرب العالمية الدائرة في أوروبا وبقية بلدان العالم. وقد أوضح "شابان" (Chapin) المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية – في مذكرة لوزارة الخارجية الفرنسية بأن فرنسا تحافظ على مصالحها أكثر وأفضل إذا أعطت الاستقلال للبنان فوراً، عوضاً عن إصرارها على الانتداب، إذ أنها لو اعتمدت سياسة استعمارية فهي لن تنتظر انفجار الجماهير ضدها فحسب، بل إن الحكومة الأميركية ترى أيضاً أن الاضطرابات تضر بمجهود الحلفاء العسكري، خاصةً أن الشعوب تنتظر تحقيق وعود أميركا الهادفة إلى تقرير مصير تلك الشعوب". ويقول القائد الفرنسي كاترو في هذا الصدد "اتفق الأميركيون والإنكليز على خطة واحدة ضدنا".
أما الاتحاد السوفياتي فقد أبدى تأييده للبنانيين في أزمتهم، لا سيما أن السوفيات كانوا يعانون من وطأة الاحتلال الألماني لأراضيهم، بالإضافة إلى تحالفهم – المؤقت – مع الولايات المتحدة وبريطانيا وذلك منذ الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي في 22 حزيران 1941. وكان لا بد من اتخاذ موقف موحد، وبالفعل فقد أرسلت حكومة الاتحاد السوفياتي مذكرة لكل من المسؤولين الأميركيين والبريطانيين أعلنت فيها تأييدها لوجهة نظرهما حيال قضية لبنان، وأنها تقف إلى جانب الشعب اللبناني لنيل استقلاله الحقيقي، كما طالبت المذكرة بإطلاق سراح المعتقلين.
وإزاء هذه المواقف الدولية والعربية واللبنانية شعرت فرنسا بأن دول العالم تقف ضدها، وكان لا بد قبل كل شيء من اتخاذ قرار باستبدال المفوض هللو وإطلاق سراح المعتقلين، باستثناء رياض الصلح، نظراً لدوره الأساسي وريادته لحركة تعديل الدستور. وباتت فرنسا غير قادرة على إقناع اللبنانيين بأن تلك الدول لم تؤيد لبنان إلا لمصالحها  الإيديولوجية والاستراتيجية التي تأمل تحقيقها في المستقبل سواء في لبنان أو في المنطقة العربية، ذلك أن جو العزلة الذي فرض على فرنسا لبنانياً وعربياً ودولياً كان أكبر بكثير من أن تبرر سبب أعمالها.
وفي خضم التدخلات الدولية والعربية وصل الجنرال كاترو إلى بيروت في 16 تشرين الثاني 1943. وبعد يومين قابل رئيس الجمهورية بشارة الخوري بعدما أنزل من معتقله في راشيا؛ وبعد اتهامات كاترو لرئيس الجمهورية بأنه سعى إلى إدخال النفوذ البريطاني مكان النفوذ الفرنسي، قرر كاترو إطلاق سراحه بشرط إبقاء رياض الصلح في السجن قائلاً: "إنكم تعرفونه، وها هو نفسه كما تعهدونه، لم يغير في خطته وعقيدته شيئاً، هذا شأنه منذ خمس وعشرين سنة، بل من عهد العثمانيين". ولكن مثل هذا الأمر لم يكن ممكناً خاصةً أن رياض الصلح يمثل قوة شعبية واتجاهاً سياسياً كبيراً، ولهذا فقد قابله كاترو في 19 تشرين الثاني 1943 واعترف بقوة شخصيته واحترامه له نتيجة مواقفه. وكان الصلح طلب من كاترو إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه "ولو كلفه ذلك اعتزال الحكم والسياسة". ونظراً لهذا الواقع، بالإضافة إلى العوامل العربية والدولية، أطلق سراح كل المعتقلين في 22 تشرين الثاني 1943. وعلى ضوء ذلك بدأت الحياة السياسية تعود إلى حالها السابقة وصدرت نشرة باسم منظمتي النجادة والكتائب تضمنت طلباً من الشعب اللبناني ضرورة حل الإضراب، واستئناف الحياة العادية، على أمل محاكمة الرئيس اميل اده، ومن معه، والمتعاونين مع فرنسا.
وهكذا يلاحظ، أن الشعب اللبناني عندما مرّ بأزمة العام 1943، ووقف موحداً ضد سلطات الانتداب الفرنسي، نال تأييداً جامعاً من الشعوب والدول العربية والأجنبية، وإِن تكن لبعضها مصالح في لبنان، غير أن الوحدة الوطنية كنت العامل الرئيس في استقلال لبنان العام 1943، وجلاء القوات الأجنبية العام 1946.

 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,115,402

عدد الزوار: 6,753,826

المتواجدون الآن: 95