وثيقة تيار المستقبل التي أعلنت في 7/3/2012

تاريخ الإضافة الجمعة 9 آذار 2012 - 6:04 ص    عدد الزيارات 1760    التعليقات 0

        

 

وثيقة تيار المستقبل التي أعلنت في 7/3/2012
تلا الرئيس السنيورة نص الوثيقة وجاء فيها:
"شهد العام 2011 تفجُّر حركاتٍ شبابيةٍ عربيةٍ بدأت من تونس، ثم انتشرت في سائر أنحاء الوطن العربي وخصوصاً في البلدان ذات الأنظمة العسكرية والأمنية التي عانت شعوبُها على مدى عقودٍ متطاولةٍ من الاستبداد السلطوي، والاعتداء على الحريات العامة والفردية، وافتقرت إلى التداول السلمي للسلطة، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه. وقد تميزت تلك الحركات بأربع ميزاتٍ رئيسية: ضخامة الجمهور المشارك، وتنوع فئاته، وغلبة الشباب في أوساط الثائرين، والإصرار على سِلمية التحرك رغم التعرض للقمع منذ اليوم الأول، والاجتماع على شعارات وأهداف الحرية والكرامة والديموقراطية والتعددية والعدالة، والدولة المدنية.
ومنذ الأسابيع الأولى، لقيت تلك التحركات الشبابية والشعبية استجابةً عميقةً في أوساط اللبنانيين وجمهور "تيار المستقبل"، كما في مشارق الوطن العربي ومغاربه والعالَم الأَوسع. ويرجع ذلك إلى التأزُّم الفظيع الذي عاشت مجتمعاتُنا العربية خصوصاً تحت وطأته لأكثر من أربعة عقود، خَلَتْ خلالَها شوارعُ المُدُن والبلدات والمنتديات وساحاتها أو كادتْ من الجمهور، وحُرمت شعوب الأمة من حقها في التعبير عن آرائها وعن مصالحها، وأشاعت الإحباط، وأخمدت الأمل بالمستقبل لدى فئاتٍ واسعةٍ من الناس، وفُرض عليها الاستبداد في مقابل التطرف، وامتُهنت الكرامةُ الوطنيةُ والقومية بالطغيان المنظَّم والدولة الأمنية بالداخل، والعجْز أمام الاجتياحات والحروب والتدخُّلات الخارجية، والاستبداد بالناس باسم القضية القومية وممارسة شتّى أنواع التخاذُل والصفقات على حساب القضية.
لقد زاد في عُمق إحساس جمهور "تيار المستقبل" بأهمية التغيير الذي يقودُهُ الشبابُ العربي، أنه كان مع معظم اللبنانيين قد بادر إلى اجتراح ربيعٍ لبناني انطلق عام 2005 على أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وحمل شعارات الحرية والكرامة والاستقلال والعدالة أيضاً. وقد تعرَّضوا كما تعرَّض شبابُ العرب الثائرون ـ للاستشهاد والعُنف المنظَّم والاغتيال السياسي والذي وصلت وقائعه في لبنان إلى 220 اغتيالاً منذ العام 1943 حتى الآن. فما فَلَّ ذلك في عزائمهم، ولا ثناهُم عن النضال بالعمل والأمل، كما فعل نظراؤهم في سائر مَواطن حركات التغيير، وما يزالون يفعلون.
لقد وقع التغيير الذي دفعت إليه تحركات الشباب العربي. ولأنه ليس انقلاباً من فوق، ولا ترتيبات من داخل الفئات السلطوية، فقد هَزَّ المجتمعات والدول هزّاً عنيفاً، تَنَاوَلَ المسائل العميقة في ثقافة المجتمعات ووعيها، من الهوية والانتماء، وإلى المفاهيم الأخلاقية، وعلاقات السلطة بالمجتمع، والدين بالدولة، والحريات الفردية. إنه نهوضٌ في مستوى الحياة ونوعيتها والكرامة وإنسانية الإنسان. ولذلك فقد تطوَّر بسرعةٍ إلى عمليةٍ زاخرةٍ طويلة المدى، وبعيدة الأثر على المستويات كلّها. ومن الطبيعي، كما في كلّ حركات التغيير الكبرى، أن تختلف المواقفُ من العمليات التغييرية الجارية، من جانب الفئات الاجتماعية بالداخل العربي، ومن جانب دول الجوار ومجتمعاتها، كما من جانب أصحاب القرار في المجتمع الدولي. وفي السياق نفسه، فإنه كما أثار هذا التغيير الكبير ذو الطابع العميق استحسان كثرةٍ كاثرةٍ من الناس وتضامُنها ومشاركتها، وخصوصاً بين العرب (ومنهم اللبنانيون)، فإنه أثار ويثير قَلَقَ بعض الجماعات الدينية والاجتماعية والسياسية وهواجسهم، استناداً، لدى شتّى الفئات، إلى إدراك المصالح، وإلى تجارب المرحلة السابقة، وإلى التوقُّعات المرجُوّة، أو الآمال المحبَطة. ولأنّ التغيير وقَع بالفعل كما سبق القول، ولأننا نحن جمهور "تيار المستقبل" جزءٌ منه، فإننا رأينا ضرورة المبادرة إلى التعبير عن التضامن والمشاركة من طريق وثيقةٍ تتضمن التوجُّهات الكبرى والأساسية التي تُوجِّهُ فكرنا وعملنا في هذه المرحلة التاريخية من حياة أمتنا وإنساننا.
إننا نعتبر التغييرَ العربيَّ مرحلةَ نضوجٍ ومساراً جديداً وفُرصةً وتحدياً في الوقتِ نفسه. هو فُرصةٌ من حيث إنه يضع الوطن العربيَّ ونحن فيه ومعه، على مشارف مستقبلٍ جديدٍ مفعمٍ بطموحات شباب أمتنا لإقامة الأنظمة السياسية على قواعد احترام الحقوق والحريات العامة، وخصوصاً الحريات الدينية، وكذلك صون الكرامة الإنسانية، والعدالة والصلاح في إدارة الشأن العام، وهو تحدٍّ من حيث قدرتُنا نحن المواطنين اللبنانيين على المراجعة والنقد، وعلى التأهُّل للنهوض القيمي والثقافي والسياسي، وعلى الخروج بالتفكير والعمل المستنير من آثار المرحلة السابقة التي سيطر فيها الاستبداد والتطرف، وسياسات المحاور، وقسّمت المجتمعات، وأثارت الخصومة بين الدين والدولة، وبين المجتمعات وسلطاتها.
إنّ الهدفَ من المراجعة والمتابعة والنقد والنضال هو التمكن من صَون وحدةِ مجتمعاتِنا وتنوعِها، وكرامةِ إنساننا في زمن التحولات، والدخول في مسار عملٍ مشترك وشاملٍ ومتقدم على المستوى الوطني مع سائر فئات لبنان ومكوِّناته الاجتماعية والثقافية والسياسية، لتمتين العيش المشترك، والانطلاق على أساسٍ منه، ومن الميثاق الوطني والدستور للنهوض بالشأن العام، وتمكين شبابنا من المشاركة في صنع مستقبلهم، مستقبلِ لبنان وسائرِ العرب.
إنّ التغيير الذي أطلقه شبان العرب، هو عمليةٌ ديموقراطية بعيدة المدى، وتتعدى إجراء انتخاباتٍ تنبثقُ عنها أكثريةٌ تحكم. إنها أيضاً ثقافة، ومساواةٌ تامّةٌ بين المواطنين، وصونٌ للحريات العامة، واحترام التنوع وحق الاختلاف والحؤول دون تفرد الأكثريات من أي نوعٍ كانت.
أولاً: في المسألة الوطنية
لا يشكو لبنان من حيث المبدأ من الافتقار إلى الدولة المدنية التعاقُدية منذ زمن الميثاق الوطني الأول، وإن خالط ذاك النظامَ بعضُ الشوائب. كما لا يشكو من نقصٍ أو قصورٍ في الولاء الوطني لأبنائه. ومع ذلك، وعلى مشارف الربيع العربي وفي خِضَمِّه يبدو وطنُنا ونظامُهُ أمام عقباتٍ وتحديات، وذلك بالنظر الى الاختلالات ووجوه الاضطراب الكثيرة والخطيرة التي تعرضت لها البلاد، وتعرض لها نظامُها عبر سبعة عقود، وهي ناجمةٌ عن خمسة عوامل:
أولها ظهور الكيان الإسرائيلي بجواره بعد الاستيلاء على القسم الأكبر من فلسطين عام 1948، والسيطرة على كامل فلسطين عام 1967.
وثانيها ميلُ هذه الطائفة أو تلك من طوائفه الكبرى في بعض الظروف إلى الغَلَبة والاستئثار بالقرار في تجاوُزٍ لأعراف النظام وآلياته.
وثالثها اتخاذ لبنان ساحةً للصراع في أزمنة التوتُّر من جانب أطرافٍ عربية وإقليمية ودولية، مما أدى إلى انكشاف البلاد على شتى التدخلات الخارجية.
ورابعُها الوصاية والهيمنة الأمنية السورية على لبنان ونظامِه خلال أكثر من ثلاثين عاماً.
خامسُها العجزُ عن صياغة وتطوير مشروع سياسي وطني يحمي الوطن والدولة والنظام.
إنّ الذي نراه نحن في "تيار المستقبل" أنّ الربيع العربيَّ بحركيته الشعبية الواسعة وفاعلياته التغييرية الكبيرة على مستوى المنطقة العربية والجوار الإقليمي، إنما يشكّل فُرصةً كبرى للبنان ومُواطنيه ونظامه، باتجاه الخروج من الرهانات والارتهانات. ويبدو ذلك في ثلاثة أُمور:
1 ) المتغيرات الاستراتيجية التي تُحدثُها التحولات الديموقراطية، والتعاونُ الحقيقيُّ والفاعل لدول الجامعة العربية على شتّى الصُعُد، بحيث لا يعود هناك مجالٌ لسياسات المحاور، وللتدخُّلات التقسيمية والمدمِّرة من جانب الجهات الإقليمية والدولية.
2 ) التحول نحو الديموقراطية الجاري في سوريا بحيث تستقيم العلاقة بين البلدين على أساس الندية والتوازُن، وإلى ذلك أشار المجلس الوطني السوري في بيانه بتاريخ 25/1/2012، وفي رسالته التضامنية التي أرسلها إلى تكتل 14 آذار في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وقد تحدث فيهما عن تصحيحٍ جذري في العلاقات بين البلدين لجهة تعديل الاتفاقيات، ولجهة ترسيم الحدود، ولجهات التضامن والتعاون في صَون المصالح، والصِلات الطبيعية بين الشعبين والدولتين.
3 ) الوصول إلى إدراك اللبنانيين ـ بمن فيهم أهلُ الاستقواء بالسلاح ـ في الزمن الجديد للعرب ومجتمعاتهم، لمصلحتهم الوطنية والعربية والإسلامية، بالتوجه بالإرادة الجامعة إلى الإصلاح والمصالحة والطائف والدستور.
بيد أنّ المتغير الاستراتيجي الناجم عن انطلاق حركات التغيير العربية، ليس كافياً لإقدار الوطنية اللبنانية وتمكينها بعدما لقيتْهُ من إحباطاتٍ ونكسات. بل هناك مسؤولياتٌ على كل الجهات السياسية اللبنانية للدخول في غمار التغيير العربي. وهناك مسؤوليات على شباب لبنان ذوي الوعي المدني والوطني والقومي، والذين أَظهروا إمكانياتٍ وقُدُراتٍ كبيرةً خلال الربيع اللبناني، وقدَّموا شهاداتٍ وشهداء. وها هم نظراؤهم العرب يصنعون بنضالاتهم تاريخاً جديداً، وأنظمةً جديدةً، تخالط مسارها إشكالياتٌ كثيرةٌ، ولكنها تخرجُ من حقبة التأزُّم الأخلاقي والسياسي والاستراتيجي. ولذا فإنّ الوعي المدني التغييري لكل شباب لبنان مهما كان انتماؤهم، والقائم على الحريات الفردية والعامة، والمواطنة المبنية على المساواة في الحقوق والواجبات، هو الكفيلُ بإعطاء العيش المشترك روحاً جديدةً، وهو الكفيلُ إنْ وقَع بإعطاء الدستور القائم على المواطنة والوطنية اللبنانية دفعاً جديداً أيضاً. إننا ندعو إلى وطنية لبنانية قائمة على مفهوم دولة المواطنة الديموقراطية، ونريد المشاركة مع كل اللبنانيين في بناء سياسات تؤدي إلى التخلُّص من الظواهر السلبية للنظام، وتُوصِلُ بالتدريج إلى الدولة المدنية الحقة.
ثانياً: في المسألة الإسلامية ـ الإسلامية
يطرح الربيع العربي أفقاً جديداً للتواصل والتفاهم بين مكونات المجتمعات العربية، وبالأخص بين السنّة والشيعة، بعد أن وصل التوتر بينهما إلى حدود الفتنة في العراق، وعند الدخول إلى بيروت بالسلاح عام 2008. ولهذا التوتُّر ثلاثة أسباب: خصوصية الوعي المتنامي لدى الطرفين وإنْ لأسبابٍ مختلفة، والصراع على السلطة، والدخول في سياسات المحاور. إنّ هذا الربيع الطالع يدفع إلى إيجاد صيغ تبدد التوتر بينهما، والتلاقي داخل أطر سياسية تقوم على مبدأ المواطنة والشراكة الكاملة في إدارة الحياة العامة.
لا ينفي أحد وجود خلافات حول الكثير من المسائل التاريخية والفقهية رغم أن المشتركات بينهما أكبر بكثير. إنها خلافاتٌ يجبُ أن تبقى في نطاق خصوصية كل مذهب، والتي يجب أن تُحترم، ولا يصحُّ ولا يجوزُ استغلالُها استغلالاً سياسياً، أو تداوُلُها إعلامياً بشكل سجالي وتحريضي. فالتغيير العربي لا بُدَّ أن يتضمَّنَ مبادئَ الحقّ بالاختلاف، وحرية المعتقد، وتقدير التنوع والتعدد. وهي قيمٌ تحترمُ خصوصيةَ المكوِّنات الدينية والإثنية من جهة، ولكنها لا تخرج على المرجعيات الوطنية الناظمة للعلائق بين الجماعات، والنشاط الاجتماعي والحياة السياسية من جهةٍ أخرى.
على المستوى السياسي، أنهى الربيع العربي مشروعية كلِّ أنظمة الاستبداد، ورفع الغطاء عن جماعات الحكم الفاسدة، ورسَّخ بالمقابل وبشكل قطعي لا يقبل المساومة مبدأ الشرعية الديموقراطية في كل الشؤون العامة. وهي مبادئُ تحولُ دون استقواء طرفٍ على طرف، وتنهي مسوغات تورُّم الخصوصيات على حساب الدولة أو انعزالها عنها، وتقطع حجة أي سلاح خارج الدولة، مهما كانت مسمياته وغاياته، وتفرض اعتماد القانون والدستور مرجعيةً حصريةً لتسوية ومعالجة أي خلاف، وتحول دون اللجوء إلى السلاح واجتياحات المدن كما حدث عام 2008. والأهم من ذلك كله، فإنّ هذه المنطلقات، تدفع جميع اللبنانيين إلى تقديم الولاء الوطني على الولاءات الوافدة والفرعية والأيديولوجيات التحشيدية، وعلى سياسات وممارسات المحاور الإقليمية والدولية. بهذا فقط يمكن امتصاص كل توترات المسألة السنية ـ الشيعية داخل المجال العربي وفي لبنان تحديداً، بما يؤكد على الجامع في الانتماء العربي ومشروعية التنوع الديني والثقافي، ويقطع الطريق على الجهات الطامعة، من خلال تضخيم مخاوف طرف أو استغلال خصوصيته المذهبية أو العرقية، بطريقة تخدم أغراضها الاستراتيجية، ومصالحها الخاصة.
في ظلّ التجربة الحديثة للاجتماع السياسي اللبناني، ينبغي ألا يشهد لبنان صراعاً شيعياً ـ سنياً، ويجب أن يبقى أُنموذجاً للوحدة الإسلامية والوطنية. إنّ على المؤثّرين في الطرفين، من علماء دين وقادة سياسيين ومثقفين ومفكرين، أن يظلُّوا متمسكين بأهداف الوحدة، قادرين على منع تحويل الاختلافات إلى خلافاتٍ وصراعات. ولذا لا بدّ من مبادرات مستمرة وحلقات تواصل عميقة ودائمة بين الطرفين، بمستويات وأشكال متعددة، لتعميم الثقة المتبادلة بينهما وتبديد الالتباسات وتفكيك الأزمات المزمنة أو الطارئة، وتجنُّب خلْط الديني والمذهبي بالسياسي.
ثالثاً: في المسألة الإسلامية ـ المسيحية
صنع المسلمون والمسيحيون على مدى التاريخ ثقافتهم وحضارتهم وعيشَهم معاً، كما صاغوا معاً أيضاً هويتهم الوطنية، وناضلوا معاً كذلك لتحرير أوطانهم العربية من الاحتلالات الأجنبية، وواجهوا معاً أعباء التسلُّط الذي مارستهُ بعضُ الأنظمة السياسية المستبدة وغير الرشيدة ومُعاناته وتبِعاته. وما دُمنا بصدد تقييم آثار الحراك الشاب وتداعياته على لبنان والمنطقة، يكون من الضروري أن نذكُر أنّ المسيحيين العرب كانوا في طليعة المُسهمين في صناعة النهضة العربية، وفي بلورة الهوية والانتماء العربيَّين، وفي المحافظة على لغة الأمة وإغناء ثقافتها. وبذلك فقد كان مثقفوهم وسياسيوهم إلى جانب المسلمين رواداً في ظهور النهضة العربية الحديثة، ورواداً في حركة التنوير والانفتاح العربية، وفي قيام الدولة الوطنية في المشرق العربي. وقد بدا في مناسباتٍ عديدة، في أزمنة الصراع على لبنان والمنطقة، وخلال النزاعات على أرض لبنان ـ بدا كأنما الخلافُ إسلاميٌّ ـ مسيحيٌّ، وأنّ الهُوّة بين الطرفين لا يمكن رَدْمُها ـ في حين أنها ترجع في أكثر أسبابها إلى عواملَ خارجية غير دينية الطابع. بيد أنّ وثيقة الوفاق الوطني بالطائف أكَّدت لدى الطرفين اعتبارات العيش المشترك، والانتماء الواحد، والمصير الواحد، بحيث انتهى النزاع وانتهت أشباحُه، مما دفع قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عام 1994 الى القول إنّ لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة!.
ولذا فقد صُدِمَ كثيرون منا بعد انطلاق حركات التغيير ووصولها إلى سوريا، من تصريحات زعماء دينيين ومدنيين من مختلف الطوائف في لبنان وسوريا، عن قلقهم وهواجسهم وتخوفاتهم. وكان مستندهم في ذلك: ظهورُ وجهٍ إسلاميٍّ متشدّد لبعض هذه الثورات، وما حدث لمسيحيي العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 من اغتيالاتٍ لشخصياتٍ دينية، وهدمٍ للكنائس، وما تعرضت له كنائسُ في مصر من تخريب من جانب المتشدِّدين، وتقدُّم بعض الأحزاب الإسلامية المتشددة في الانتخابات في عدة بلدان. ثم هذه الهجرة الكثيفة للمسيحيين من سائر أنحاء المشرق العربي والتي حصلت قبل حدوث الثورات، ويُخشى أن تتفاقم وسط اضطرابات تغيير الأنظمة والرؤساء. إنّ هذه المخاوفَ والهواجسَ قد يكون لها ما يبررُها وهي تستدعي النظرَ والمراجعةَ والتفهم. بيد أنّ هذا أمرٌ، وترتيب نتائج سياسية قاطعة عليها أمرٌ آخر تماماً. فالمسلمون في سوادهم الأعظم على فرض ظهورهم السياسي باعتبارهم كذلك، ما أظهروا في الأزمنة الحديثة تطرفاً ولا مارسوا عنفاً على المسيحيين ولا تعاطفوا مع المتطرفين. وقد وقع التغيير، فمن الضرر بمكانٍ الرهانُ على أنظمةٍ استبداديةٍ منقضية، عانى منها المسيحيون كما المسلمون الأمرَّين. ثم إنّ التحالفات والمشاريع التي تُبنى على مفهوم الأقليات لا مستقبلَ لها وهي لا تُشبه المسيحيين العرب الذين لا يعتبرهم المسلمون ولا يعتبرون أنفسَهم أقليات، بل شركاءُ في الثقافة والانتماء والمصير، بعيداً من منطق الحماية الذي انتهجه بعض الأنظمة، والذي كانت نتائجه سلبية جداً.
إنّ الواقعَ بالفعل أن الربيع العربيَّ فُرصةٌ لكلّ الفئات في مجتمعاتنا، ولكلّ المكوِّنات التاريخية الأصيلة في هذا الشرق. فقد كاد الاستبداد يُزعزعُ أُسُسَ العيش المشترك، ومفاهيم المواطنة والمساواة في الحقوق الأساسية بدون تمييزٍ بين مسلمين ومسيحيين. أمّا العوامل الإشكالية في الموقف والمتصلة بالأُصولية والإسلام المتشدد، فإنها موجودةٌ، وتستدعي الاهتمام والتعاوُن على التجاوز ـ والثبات والنضال معاً في نطاق قيم الحرية والكرامة والمواطنة والدولة المدنية ومبادئها. فقد قامت في العقود الماضية ـ كما سبق القول ـ ثُنائيةٌ مُتَقَابلةٌ بين الاستبداد والتطرف، لأنّ النقيض يستدعي نقيضه. إنما لا شكَّ أنه إذا تراجع التطرف بسقوط الاستبداد، فليس معنى ذلك أنّ كلَّ المشكلات انتهت. وإنما الرهانُ ـ في تجاوُز العقبات، وتفاوتات الوعي ـ على النضال المشترك من جانب المواطنين الأحرار، وعلى الحراك المدني القوي من جانب الشباب، والذي سوف يدفع الجميع على مختلف اتجاهاتهم إلى المشاركة في بناء المجتمع السياسي الجديد، وإلى التلاؤم والوقوف تحت مظلّة الدولة المدنية والآليات الديموقراطية والحريات المكفولة من القانون. وإذا كان الاعتمادُ الأولُ في ذلك ـ كما سبق ذكْرُهُ ـ على الحِراك المدني والشراكة فيه بين سائر المواطنين لتثبيت دولة الحرية والمواطنة، ونظام المناصفة بغضّ النظر عن الأَعداد والخلافات السياسية؛ فإنّ العامل الثاني للثقة يتمثّل في الفكر الديني المستنير والذي يقودُهُ شيخُ الأزهر بمصر، الذي أصدر بعد الثورات ثلاث وثائق.، تتعلق أولاها بالحكم المدني، والدولة التعددية الديموقراطية، وتتعلق الوثيقةُ الثانية بحركات التغيير العربية ومشروعيتها وحقّها في الثورة غير المسلَّحة وغير العنيفة لتغيير الحكام والأنظمة إذا وقعت في اللاشرعية نتيجةً للظلم والقمع والاستبداد، ومنْع الحياة السياسية الحرة، والتداول السلمي على السلطة. وتشترعُ الوثيقةُ الثالثة للحريات الأربع: حرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الأدبي والفني. ويستند الأزهر في نهضته هذه إلى منظومة "الحقوق والمصالح" لدى الفقهاء المسلمين، والتي تتضمن حق الحياة، وحقَّ العقل، وحقَّ الدين، وحقَّ الكرامة، وحقَّ المِلْك، وأنّ الإسلام لا يقول بالدولة الدينية. وقد قال العلاّمة اللبناني الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين: إنّ في الدولة المدنية القائمة على المواطنة، إنقاذاًَ للدين وللدولة معاً!.
إنّ أهمية صدور هذه الوثائق من جانب مرجعيةٍ إسلاميةٍ كبرى تكمن في الإسهام بتجديد الثقافة الإسلامية، ومواجهة التطرف والغلو، وظواهر الخلط بين الدين والسياسة. وهي قضايا ومسائل مهمة في النهضة العربية الجديدة.
إنّ علينا نحن اللبنانيين ـ الذين تجاوزْنا الدولة الدينية، ونرجو ونعمل على أن يكتمل تجاوُزُنا للدولة الطائفية ـ واجباً ورسالة. أما الواجبُ فهو صَونُ دولة العيش المشترك، ومنع الاعتداء على أصولها وأعرافها. وأما الرسالة، فهي العمل مع المحيط العربي على تعزيز العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في دول المواطنة الحرة والمواطنين الأحرار، دول الحريات الدينية والمدنية، وفي زمن التغيير بالذات، لأنه زمنُ المستقبل.
رابعاً: في المسألة العربية
اعتاد كثيرون في العقود الأخيرة على الحديث عن "العروبة الحضارية" التي يحبّذونها ويعتبرونها نقيضاً للعروبة القومية تارةً، وللعروبة المرتبطة بالدين تارةً أُخرى، ولعروبة الحكومات العسكرية والأمنية في كل الظروف. والذي يحدث الآن في زمن الثورات ظهور مقولتين للعروبة المتجددة وليس مقولةً واحدة: العروبة الحضارية والعروبة الوطنية. فالثورات الحالية والتي تشترك في عناوين وشعارات: التحرك السلمي، والحرية، والكرامة، والدولة الديموقراطية، لا تريد أحزاباً عقائديةً أو حاكمة. فالمشكلة التي يتصدى لها الشبان الثائرون هي مشكلة الاستبداد باسم الاستقرار، وباسم القومية، وباسم الممانعة، ومشكلة ضياع المصالح الوطنية وتفشي الفساد، ومنع حرية التعبير والاستئثار بإدارة الشأن العامّ وانعدام المساءلة. ولذلك كان هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين تحركات الشباب والديموقراطية في كلّ بلدٍ قامت فيه الثورة الشبابية. ولذا فلأول مرةٍ ترتبط العروبةُ الجديدةُ هذه بالديموقراطية من جهة، وبالوطنيين الثائرين من جهةٍ ثانية. فمنطق حركات التغيير في التفكير والممارسة أنه لا مشكلة في الانتماء، بل المشكلةُ في صَون المصالح والحقوق، وتغيير إدارة الشأن العامّ، وإقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة. وهذه قفزةٌ أنجزها الشباب للخروج من التناقُض المصطَنع بين الفردي والوطني والقومي. وكما لا تعودُ الوطنيةُ بهذا المعنى مرذولة، لا تعود العروبة مرتبطةً بمقولةٍ نظريةٍ أو سلطوية، بل تصبح هي المشترك الثقافي الجامع والمستوعب، وليس الحصري النابذ. ونجد هذا الاعتبار الجديد للوطنية والقومية في مسارعة وسائل الإعلام الموالية للنظام السوري، إلى اتّهام المتظاهرين السلميين من أجل الحرية والكرامة، بأنهم جزءٌ من المؤامرة على النظام القومي المُمانع والمقاوم، والمسارعة إلى الخروج من العروبة كلِّها بسبب إجماع دول الجامعة على رفض العنف الهائل الذي يمارسه النظام السوري الحالي ضد شعبه.
إنّ العروبة الوطنية الجديدة إذا صحَّ التعبير، تُعطي دَفعاً جديداً للوطنية اللبنانية، التي تبلورت لدى المسلمين في وثيقة "الثوابت الإسلامية العشر" الصادرة عن دار الفتوى عام 1983، ووثيقة "الثوابت الوطنية والإسلامية" الصادرة عن دار الفتوى أيضاً عام 2011. أما "العروبة الحضارية" فتخرج على المعنى السلبي الذي كان سائداً لتعني أن العروبة ثقافةٌ وليست اعتقاداً حصرياً ذا طابع إثني أو ديني. وفي هذين الاعتبارين وعليهما تتزايد إمكانيات اللقاء والتوحُّد بين المسلمين والمسيحيين للحفاظ على الاستقلال والسيادة، وإزالة حواجز التعصُّب من أيّ نوعٍ باسم الدين أو باسم القومية. ما عادت الوطنيةُ اللبنانية محرَّماً ينشر التناقُض مع الأحاسيس والمصالح القومية، بل هي في حراك الشبان اللبنانيين والعرب الآخرين جزءٌ لا يتجزأ من هذه العروبة الجديدة أو أنها شرطها الباقي والحامي.
خامساً: في القضية الفلسطينية
لقد قاوم الفلسطينيون، وقاوم العرب المشروعَ الصهيونيَّ منذ العشرينات من القرن العشرين. وقاتلوا ضدَّ الكيان الإسرائيلي بعد قيامه على أرض فلسطين. وكانت العقود الأربعة الماضية بالغة القسوة على أهل فلسطين وأمتهم العربية، بسبب تعمْلُق دولة الكيان الإسرائيلي، والسياسات الدولية الظالمة، وعجْز أنظمة الاستبداد وتبعيتها، وتحويل بعض الجيوش إلى أجهزة قمعٍ ضدّ شباب الأمة وقواها الحية. أمّا الآن، والشعوب العربية تستعيد حريتها وإدارتَها لشأْنها العامّ، وحقَّها في صون مصالحها الوطنية والقومية، فإنّ زمن الضياع والتضييع ينقضي، ليحلَّ محلّه زمنُ الحرية لفلسطين، زمنُ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتُها القدس العربية. ذلك أنّ زمنَ الربيع العربي يجعل الصراع مع العدو الإسرائيلي يأخذ شكل المواجهة ليس مع أنظمةٍ قمعية، بل مع شعوب حرةٍ تستعيد قرارها ولا يفرض حاكمٌ مستبدٌ عليها قراره متجاهلاً إرادتها ومصالحها الوطنية والقومية. سيكون زمن الربيع العربي هو زمن انتصار فلسطين على الاستعمار والاستيطان، باسم الحرية، وحقّ تقرير المصير. لقد كانت استعادة فلسطين شعباً وأرضاً خلال سبعة عقودٍ عنواناً لمشروع التحرر العربي، وهي اليوم العنوان العميق للحريات العربية الجديدة.
سادساً: في الموقف من الثورة السورية
اعتاد اللبنانيون على مدى أكثر من ثلاثة عقود، أن يتعاملوا مع النظام في سوريا من مواقع الخوف والتبعية. وكانت مشروعية أيّ فكرةٍ أو توجّهٍ سياسي تتحدد من خلال الموقف من الوجود العسكري السوري في لبنان، كما كانت العروبةُ تتحدد من خلال الولاء "لنظام القومية العربية الأَوحد" المسيطر على دمشق. وكان الذين يخرجون على هذين الأمرين أو أحدهما يُخَوَّنون، وينتهون إلى الصمت الخائف أو الهجرة أو ما هو أسوأ. ثم أُضيف إلى "رُكْني العروبة" هذين ركنٌ ثالثٌ هو التسليمُ "لمقاومةٍ" تتمثّل حصْراً في "حزب الله" والنظام السوري المُمانع مرةً أُخرى!.
لقد تزعزعت هذه الأركان الثلاثة من دون أن تزول، وبدأت الزعزعة ببيان المطارنة الموارنة عام 2000، ثم بقيام حركة 14 آذار وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 على أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وفي السنوات السبع الماضية، ورغم خروج الجيش السوري من لبنان، فإنّ الاتهام بخيانة العروبة دام واستعلى، فلا مخرج من هذه الدعاوى الاستبدادية والتزويرية إلاّ بزوال أنظمة الطغيان التي استعبدت الأفكار والشعوب العربية.
لقد رفع الربيع اللبناني شعارات الحرية والاستقلال والسيادة. وها هي هذه الشعارات تصبح شعاراتٍ عربيةً عامةً في زمن حركات التغيير. إنما بعد نشوب الثورة على النظام في سوريا، عادت إلى الارتفاع أصوات ودعاوى التآمر والتخوين ضدَّ كلِّ مَنْ يُصرُّ على الاستقلال، أو يتضامن مع ثورة الشعب السوري على حكومته الطاغية. وكانت لتلك الحملة حُجّتان: أنّ من يتضامن مع الشعب السوري يدخل في "المؤامرة على المقاومة"، أو أنّ للعلاقات بين لبنان وسوريا خصوصيةً تستدعي عدم التدخُّل في الشأن السوري. ولا شكَّ في أنّ الشعب السوريَّ هو الذي يصنعُ ثورته، والذين يتدخلون من لبنان حقاً في الشأن السوري بأساليب أزمنة الاستبداد وعهوده، هم أولئك الذين يُجاهرون كلَّ يومٍ في وسائل الإعلام، وعلى الأرض، وفي المحافل العربية والدولية أنهم مع النظام السوري ضدَّ شعبه، أو أنهم ينأَون بأنفُسهم عن التدخل في الشأن السوري!.
إنّ الحرية لا تتجزَّأ. فالذي يقول بحريات لبنان وحريات شعبه، لا يستطيع الاستمرار في دعم النظام السوري ضد شعبه الثائر من أجل الحرية والكرامة. ولن تستقرّ العلاقات اللبنانية ـ السورية على سويّةٍ سياسيةٍ وأخلاقية وعربية إلاّ إذا نجح التحول الديموقراطي في سوريا، والذي يُنْشئُ نظام الحرية والعدالة، ويقيم علاقةً سويّةً بين الدولتين وفق مقتضيات حسن الجوار والمصالح المشتركة. فمن حقّ الشعب السوري علينا التضامُنُ معه في محنته مع نظامه وثورته عليه إلى أقصى الحدود، وأن نظلَّ أُمناءَ لعهود الأخوة والحرية والكرامة التي ينجزها الربيع العربي، والتوقف عن إيجاد المبررات لاستمرار النظام السوري المستبد والقاتل بأيّ سبيل. أما المخاوفُ التي يُبديها البعضُ، فينبغي أن تكون من بقاء نظام الاستبداد، وليس من زواله.
إن الربيع السوريَّ الذي نشر في الأجواء أريج الحرية والكرامة المضمخ بدماء شابات سوريا وشبابها وأطفالها وشيوخها ومُعاناتهم وآلامهم، سيكون خيراً على لبنان نظاماً وحريةً واستقلالاً، وعلاقاتٍ طبيعيةً ونديةً، كما هو خيرٌ على سوريا العربية والعروبة التي رفع شعبُها شعار: الموت ولا المذلّة! ليصبح ربيع درعا وحمص وحماة وإدلب ودوما ودمشق والزبداني، وحدةً واحدةً مع ربيع لبنان وربيع العرب، لوحدة الانتماء، ووحدة الأهداف، ووحدة القيم والمصائر.
إنّ المشرق العربيَّ الجديد هو الذي يصنعُهُ ثوارُ سوريا وأحرارُها اليومَ، إذ يُخرِجونَ بالثَبات والنضال والاستشهاد من أجل الحرية، أنفُسَهُم وأمتَهم من أزمنة الاستبداد والاستقطاب، وتزوير القضايا الكبرى والمفاهيم الكبرى بذرائعَ مختلفة، ما خدمت ولا تخدم غير أعداء الأمة العربية.
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" (1902): "إنّ الاستبداد مُفْسِدٌ للدين والأخلاق والسياسة وإنسانية الإنسان!". وها هم شبابنا الثائرون في الوطن العربي يقومون بحركةٍ إصلاحيةٍ كبرى لإعادة الانتظام إلى سُلَّم القيم، ونِصاب السياسة، وإقامة الأنظمة الديموقراطية. وإننا في "تيار المستقبل" جمهوراً وقيادةً، إذ نُحسُّ الفرح والاعتزاز بالإنجاز الكبير، نعرف أنّ الإصلاح الديموقراطي والحكم الرشيد، عمليتان بعيدتا المدى، وكثيرتا الأعباء، وهما تحتاجان إلى الإصرار والنضال والتبصُّر. فالمطلوب الاستعدادُ لاستقبال الجديد، بالمتابعة والنقد والنضال الثقافي والسياسي والأخلاقي. والمطلوب مدُّ اليد إلى سائر الفئات أفراداً وجماعاتٍ على أساس المواطنة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. والمطلوبُ الخروجُ من أحاسيس الخوف والغُبن والاستقواء وممارساتها. والمطلوب التمسُّك بالطائف والدستور.
لقد تعثرت أمواج الربيع اللبناني في مواجهة العزلة والحصار والسلاح. وها هو الربيع العربي يجترح آفاقاً شاسعةً للحرية والتغيير باتجاه الجديد والواعد والمتقدم. إنه يخاطب لبنان بقيم الحرية والكرامة والعدالة فيه. ويكون علينا أن نستجيب وأن نشارك بالتحرر من التبعية والاستقطاب والاستقواء بالسلاح والمسلَّحين، وأن نعمل على استعادة الحماسة للعيش المشترك، ولبناء الدولة الحرة والقادرة والديموقراطية، من طريق استكمال تطبيق الطائف، وممارسة شعار لبنان أولاً قولاً وفعلاً.
إنّ الربيع السياسي والدستوري العربي لم يتبلور بعد بشكله النهائي، ويعاني ما تعانيه المراحل الانتقالية بعد عقودٍ من الاستبداد اقترن فيها الاستقرار بالظلم والقهر والخنوع؛ لكنه سوف يصل بالتأكيد الى إقامة نظامٍ سياسيٍ يقرر الشعب فيه خياراته بواسطة الاقتراع الحر. فالديموقراطية مسارٌ طويلٌ من التطور والتطوير الفكري والممارسة المنفتحة والاقتناع بالمواطنة والاعتراف بالتعددية والمساواة وحكم القانون. أمّا الربيع اللبناني فإنه لن يستكمل نهوضه وتجدده إلاّ بالالتزام العاقل والفاعل من مختلف مكونات الشعب اللبناني بتطبيق الدستور اللبناني من دون استنساب في مواده وذلك لأنّ الربيع العربي يفتح الباب واسعاً لأجواء الثقة والطمأنينة والتغيير الإيجابي، بما يؤمن للبنانيين وفي المدى المنظور فرصة التفكير بكل ما هو ملح وضروري في قضاياهم السياسية والدستورية، سعياً الى تعميق الاستقرار وتثبيته بعناوينه المتنوعة.
لقد ترسَّخت في أخلاد الجماعة السياسية في لبنان ـ فضلاً عن النصّ الدستوريّ المُلْزِم ـ المناصفةُ بين المسيحيين والمسلمين في التمثيل التشريعي والوزاري ووظائف الفئة الأُولى. ولن ينجح شحنٌ طائفيٌّ أو هاجسٌ عدديٌّ في تغيير ما التزمْنا به من مناصفةٍ توافُقيةٍ وغير مأزومة. وسيظلُّ الحوارُ العاقل والمستنير هو السبيل لتنفيذ هذا الالتزام.
وإذا كان الدستور ومواده الميثاقية والتنظيمية حقيقةً ثابتةً في أخلاد اللبنانيين وتصرفاتهم، فإنّ هناك تجربةً أُخرى خاضتها الفئاتُ اللبنانية من دون استثناء، وما حصدت منها غير الخيبات والأزمات المخلّة بالدولة والنظام والعيش المشترك، وهي تجربة الاستنجاد أو استعمال السلاح من خارج إطار الولاء الوطني للدولة اللبنانية. نعم لقد عصفت تجربةُ السلاح غير الشرعي بالجميع. فمنهم من انتصر بالشقيق صاحب القضية. ومنهم من غامر باستعمال سلاحٍ مضادّ. وهناك أخيراً من خسر الكثير من وهج انتصاره بخروج الجيش الشقيق، وباستعمال السلاح في الاستقواء الداخلي، وكلُّ ذلك من ضمن مشروعٍ إقليميٍ غير عربي، يضعُهُ في مواجهة الدولة الوطنية وحقها في الانفراد بقرار الحرب والسلم. لقد ذهب الربيع العربي بقدرة أيّ سلاحٍ غير شرعي على تغيير التوازنات، وصارت الخيارات الأساسية في يد الناس وليست في يد فردٍ أو فئةٍ أياً كان العنوانُ الذي يتمُّ في ظلّه حملُ السلاح أو استعمالُه. إننا نعتبر كلَّ هذه الوقائع ماضيةً ومنقضية. ونحن على استعداد دائم وأكيد من أجل إزالة آثار هذا الماضي بالدخول في الحوار الإيجابي والديموقراطي والسلمي، في إطار مناقشة وجود كلّ سلاحٍ لبناني وجدواه على الأرض اللبنانية ضمن الاستراتيجية الدفاعية للدولة اللبنانية بمؤسساتها المنتخبة ديموقراطياً والممثِّلة لكلِّ اللبنانيين، والتي تتحمل وتتولى من خلال مؤسساتها الدستورية حقَّ وسلطة الإمرة والتحكُّم، ومسؤوليات قرار الحرب والسلم، وصون حريات المواطنين وكراماتهم من اشتراطات الغَلَبة المتجاهلة للدولة وجهاتها المختصّة. ولا شكّ في أن الشروع في تنفيذ مقررات الحوار الوطني بشأن السلاح الفلسطيني، يسهّل التركيز على معالجة الأولويات الأُخرى، وذلك لأنّ الحوار الجدي والمطلوب وطنياً ينبغي أن يكون محدَّد العنوان والزمان والنتائج المرتقبة.
لقد لُجم النهوضُ في لبنان على مدى أربعة عقودٍ وأكثر، بالقضايا المغلوطة والمستعارة، والسطْو على الأمن الوطني والمال العامّ والإدارة والمؤسسات والنظام والدولة. والتغيير العربيُّ الحاصلُ ـ إضافةً الى أهدافه المعلنة ـ هو نهوضٌ أيضاً في الاقتصاد الوطني، وفي إدارة الموارد، وفي مكافحة الفساد والإفساد، بما يؤدي إلى النهوض في مستوى الحياة والوجود وإنسانية الإنسان. وعندما تتلاقى الإرادات الحرة للشباب اللبناني والعربي؛ فإنّ اللبنانيين الذين عانَوا وما يزالون، يقعون بالفعل في طليعة المستفيدين من ربيع العرب، وربيع الإنسان العربي.
يتحقق ربيع لبنان باستعادة اللبنانيين لدولتهم ونظامهم الديموقراطي بما يمكنهم من مواجهة ذلك الكم من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلوح في الأفق. ومسؤوليتُنا جميعاً هو أن نناضل حقاً من أجل عودة الدولة التي يريدها اللبنانيون حافظةً لمصالحهم الوطنية واستقلالهم وازدهارهم وحرياتهم.
بإرادة الناس الحرة يحدث التغيير ويحدث النهوض. وبإرادة العرب الأحرار يحصل التكامُلُ والاستقرار الحقيقي، وصُنع الجديد، والسير نحو المستقبل الأفضل: "لتكونَ لهم حياةٌ، وتكونَ حياةً أفضل" (إنجيل يوحنا 10:10).
إنه زمنُ الناس، زمنُ الجمهور، زمنُ الشباب، زمنُ التحديات الكبيرة، والفُرَص الكبيرة، وزمنُ التجدد والجديد النافع: فأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض (سورة الرعد: 16)".
 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,255,158

عدد الزوار: 6,942,284

المتواجدون الآن: 115